| جورج علم |
إنتهت زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان على وقع حدثين:
الأول ـ إقتراح الفاتيكان على “حزب الله” التخلي عن سلاحه، ودعم الحوار الذي يفترض أن يؤدي إلى سلام عادل ودائم.
الثاني: إجتماع لجنة “الميكانيزم” في الناقورة بمشاركة مدنيين إلى جانب الوفود العسكريّة، وترحيب السفارة الأميركيّة بهذه الخطوة.
وترك دخول الفاتيكان، وبهذا الزخم، على الملف اللبناني، ترددات واسعة حول الأبعاد والخلفيات.
لقد خاطب “حزب الله” مباشرة، وترك كرة الموقف في ملعبه، منتظراً الرد، وما إذا كان إيجابيّاً متجاوباً، أم ثابتاً وفق ما جاء في ندائه الشهير الموجّه إلى رئيس الجمهوريّة جوزاف عون، ورئيس المجلس النيابي نبيه بريّ، ورئيس الحكومة نوّاف سلام، والذي أكدّ فيه رفضه لأي شكل من أشكال التفاوض، وتمسّكه بالسلاح.
الحقيقة أن الحزب خاطب البابا بكتاب صيغ بأسلوب دبلوماسي، فيه من التلميح، أكثر ممّا فيه من التصريح، حول موقفه، وأيضاً حول ما يقلقه. وإحتل الكتاب حيزاً من الإهتمام لدى البعثات الدبلوماسيّة المعتمدة في بيروت، وخصوصاً الغربيّة منها، والتي تعير إهتماماً خاصاً لملف غزّة، ولبنان، وسوريا، ودول أخرى في المنطقة.
ولاحظ دبلوماسيّون أوروبيّون أن الكتاب، ما كان ليصدر، شكلاً ومضموناً إلاّ بعد أن حظي بضوء أخضر من إيران التي تواجه معركة دبلوماسيّة شرسة مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، ومع الولايات المتحدة، و”الترويكا” الأوروبيّة، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حول المفاوضات، والتي لا تزال متعثّرة نظراً للإملاءات الفوقيّة المفروضة كممر إلزامي لا بدّ أن تسلكه إيران للوصول إلى طاولة المفاوضات مع الغرب.
وإستناداً إلى فرضيّة أن طهران هي من أعطت الضوء الأخضر، فهذا يعني بداية تحوّل في الموقف، تمليه متغيّيرات كثيرة أبرزها:
أولاً: إقتناع القيادة الإيرانيّة بأن مفتاح التفاوض مع الغرب الأميركي ـ الأوروبي، هو سلاح “حزب الله”، وطالما أن الحزب متمسّك بسلاحه، طالما أن الظروف غير متناسقة للبدء بحوار إستراتيجي.
ثانياً: إن الرسالة التي أبلغها المستشار السياسي للرئيس نبيه برّي النائب علي حسن خليل إلى القيادة الإيرانيّة، تضمّنت شرحاً دقيقاً لواقع الحال، في ظلّ تمادي الإعتداءات الإسرائيليّة.
ثالثاً: التأييد الذي منحه الرئيس برّي للمبادرة التي أطلقها الرئيس عون في رسالته عشية ذكرى الإستقلال، والتي تضمنت بنداً واضحاً حول الإستعداد للتفاوض.
رابعاً: رسالة المرجع الأعلى للطائفة الشيعيّة في العراق السيّد علي السيستاني إلى القيادة الإيرانيّة حول الصعوبات والتحديات التي تواجه الطائفة الشيعيّة في لبنان، والتداعيات الخطيرة التي قد تترتّب عليها، في ما لو نفّذت حكومة نتنياهو تهديداتها العدوانيّة.
فهل غيّرت هذه الدوافع، وغيرها، في الموقف الإيراني؟ وهل يشهد العالم هذا التغيير من خلال الحزب، وموقفه من السلاح، والمفاوضات؟
الكرة الآن في ملعب هذا “الثنائي” الممانع!
في المقابل، هناك تغيير طرأ على الموقف الأميركي ـ الإسرائيلي، بعد زيارة البابا. من الواضح أن الطرفين كانا يرفضان سابقاً دخول أي جسم غريب على المسرح اللبناني ـ الإقليمي الذي هندساه معاً تحت شعار”الشرق الأوسط الجديد”. سبق أن رفضا أي دور فرنسي في معالجة الملف المفتوح ما بين لبنان و”إسرائيل”، وأيّ دور لـ”الخماسيّة” العربيّة ـ الدوليّة. حتى لجنة “الميكانيزم” عُدّلت مهمتها، من الإشراف على تطبيق وقف إطلاق النار، إلى لجنة “حوار” وفق المواصفات الأميركيّة المنسّقة مع حكومة بنيامين نتنياهو.
زيارة البابا إلى لبنان، وما رافقها وتلاها من حراك دبلوماسي، دفعت بالطرفين الأميركي والإسرائيلي إلى إعادة النظر بالكثير من مواقفهما:
أ ـ الضغط على “إسرائيل” لإلتزام الهدوء، وإعطاء الفرصة الكافية لمسار الحوار، كبديل عن مسار الحرب الذي تهوّل به، وتهدّد لبنان بالثبور وعظائم الأمور.
ب ـ إقناع “إسرائيل” بأن القوّة أعجز من النيل من “حزب الله”، وسلاحه، والدليل أنها دمّرت غزّة تحت شعار القضاء على “حماس”، ولغاية الآن، ورغم كل الفظائع التي إرتكبتها في القطاع، لا تزال ” حماس” قويّة، وتتمسّك بسلاحها. وإستطراداً، لا يمكنها التعاطي مع لبنان بالأسلوب الذي إعتمدته في القطاع. ولبنان ليس غزّة!
ج ـ أن الحكومة اللبنانية بادرت إلى حصر السلاح في جنوب الليطاني، وحقق الجيش إنجازات بإعتراف قيادة القوات الدولية “اليونيفيل”، والبيانات الرسميّة الصادرة عن لجنة “الميكانيزم”. وإن العائق الذي يحول دون إستكمال المهمة، هو عدم إحترام “إسرائيل” لمندرجات إتفاق وقف إطلاق النار، الذي هندسه الأميركي آموس هوكشتاين قبل عام.
د ـ التفاهم غير المعلن على ضرورة إعطاء لجنة “الميكانيزم” طابعاً عملانيّاً جديّاً للحوار، بحيث لا تقتصر إجتماعاتها على تبادل رسائل فارغة من أيّ مضمون. وضرورة إعطاء فرصة جديّة للمساعي الدبلوماسيّة الناشطة، بعيداً عن لغة التهديد والوعيد، لأن أيّ حوار في ظلّ الطائرات المسيّرة، والإغتيالات، والإعتداءات التي يتعرّض لها مدنيّون، يعني الدوران في الحلقة المفرغة.
والمطلوب من الحوار الذي إنطلق الأربعاء في الناقورة، التفاهم على خريطة طريق، وإلى أين ستؤدي في نهاية المطاف؟ وهل تعالج التباينات العميقة بين من يطالب بتنفيذ القرار 1701، وترسيم الحدود البريّة طبقاً لإتفاقية الهدنة، ومن يطالب بإتفاق أمني مفخّخ بشروط تعجيزيّة؟
ويبقى أن الريح المؤاتية لأي حوار ناجح، يفترض أن تهبّ أيضاً من طهران، ومن الضاحية، ليبنى على الشيء مقتضاه.














