/ جورج علم /
حضر عامل الوقت. إستنهض الكسالى. دفع بالمتريّثين الى الإقدام. الولايات المتحدة ملتزمة بتلطيف شتاء أوروبا القارس. إسرائيل ملتزمة بمدّ الأوروبيّين بغاز شرق المتوسط، وغاز المتوسط ينتظر حقل “كاريش”.
عجّل عامل الوقت بمسودة التفاهم. تلقفها اللبنانيون بلهفة. إنها مسودة الياس أبو صعب، وضع لبنتها مع آموس هوكشتاين بالتنسيق مع الفرنسييّن، وترك الصياغة النهائية للوسيط الأميركي. ويبدو أن المضمون لم يخلُ من ثغرات، بدليل أن بطل الرواية، تحدّث عن تفاصيل “صغيرة، لكنّها خالية من الشياطين”!
أمر عامل الوقت المسؤولين بالرد سريعاً، لم يعد هناك من ترف للهدر والتمييع. حدّدت السفيرة الأميركيّة المهلة بساعات. قضت الأسباب الموجبة بالسرعة. هناك تفاهم ضمني بين مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، وحكومة يائير ليبيد، بتوقيع إتفاق الترسيم قبل الأول من تشرين الثاني المقبل موعد الإنتخابات العامة المبكرة في كيان الاحتلال الإسرائيلي.
أخذ بنيامين نتنياهو علماً بالتفاهم الضمني، ثارت ثائرته، إعتبر أن الإدارة الأميركيّة تعمل لمصلحة خصمه في الإنتخابات. أحدثت المسودة أزمة ثقة. استقال رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض، وتحوّلت إلى ورقة إنتخابيّة بإمتياز، ونشب سجال عنيف ما بين رئيس الحكومة يائير ليبيد، وخصمه نتنياهو، وراح الأخير يصوّب في كلّ إتجاه لتجييش الرأي العام، مفنّداً نقاط الضعف، و”الكميات الضخمة من الغاز التي ستتخلّى عنها إسرائيل، بموجب المسودة، لمصلحة حزب الله”!
تدخّلت المحكمة الإسرائيليّة العليا. تحرّك الكنيست، ونشطت مراكز البحوث، والدراسات للنظر بقانونّية المسودة، وما تنطوي عليه من شروط ملزمة.
في حمأة هذا النقاش، كان من الطبيعي أن ترفض تل أبيب الملاحظات اللبنانيّة، حتى قبل الإطلاع عليها، وذلك لإعتبارات، منها:
أولاً، لأن هناك من هو غير مقتنع بترسيم الحدود. وإن المسودة التي تبلّغتها بيروت، إنما كانت جزءاً من المناورة، وكان الرهان أن ترفضها الحكومة اللبنانيّة، لكي تتذرّع تل أبيب بهذا الرفض، وتتنصّل.
ثانياً، هناك مصلحة مشتركة للإدارة الأميركيّة مع حكومة ليبيد، لإطلاق مشروع غاز شرق المتوسط بإتجاه أوروبا تعويضاً عن الغاز الروسي، وهذا لا يمكن أن يبصر النور إلاّ بعد التوصل إلى تفاهم مع لبنان لترسيم الحدود، لتنطلق في ما بعد عمليّة الإستخراج من حقل “كاريش”، نظراً لما يشكّله من احتياط استراتيجي للمشروع. وهذا ما يعارضه نتنياهو لسببين:
– لأن حكومته فشلت سابقاً في التوصل مع الإدارة الأميركيّة إلى تفاهمات وسطيّة، نظراً للشروط التعجيزيّة التي وضعتها، فجاءت حكومة ليبيد لتقطف الثمار يانعة.
– لأن نتنياهو ينطلق بمعركته الإنتخابيّة من خلفيّة علاقات متوترة مع الإدارة الأميركيّة، عندما كان رئيساً للحكومة، حول ملفات عدّة. وهو يرى في الترسيم، مشروع تفاهم أميركي مع خصومه في الداخل للإطاحة به، وإقصائه عن رئاسة الحكومة.
ثالثاً، الحكومة الإسرائيليّة تتحدث عن ترتيبات أمنيّة لحظتها مسودة التفاهم، وتضمن أمن “إسرائيل” في بحر الجنوب، وهذا ما يشكّل ضمانة مطلوبة لحقل “كاريش”، ولمشروع غاز شرق المتوسط، الأمر الذي لم تتمكن حكومة نتنياهو من تحقيقه عندما كانت تدير المفاوضات.
لم يعلّق الجانب اللبناني على السرد الإسرائيلي. غابت الشفافيّة، وحضرت المزايدات، وهذا أمر طبيعي في بلد يميل مع كلّ ريح، وتأخذه نحو مجاهل لا يريدها.
كانت الأولوية لإنتخاب رئيس للجمهوريّة، وعقد مجلس النواب جلسة “بروفا”. وانتقل الاهتمام إلى الملف الحكومي. وفجأة حلّت السفيرة الأميركيّة في القصور الثلاثة حاملة مسودة التفاهم، فاختلط الحابل بالنابل.
سفيرة تغيّر جدول الأعمال، وأخرى تتولّى رصد واقع الحال، وثالثة تتولى ملف الغاز والنفط، وإمكانيّة التطبيع مع شركات بلادها، ورابعة تتابع ملف النزوح، ومسار الدمج…!
إن بلداً تديره القناصل، لا يؤمل منه إصرار على قرار، ولا إقدام على تنفيذ مسار. الكل ينتظر الخارج. مسودة التفاهم تنتظر نتائج الكباش الأميركي ـ الإسرائيلي. الحكومة تنتظر الوحي. الرئاسة تنتظر الترسيم. وجديد القناصل أن يكون الرئيس الضمانة لتفاهم الترسيم، وهذا يرتّب إضافات جديدة.
أول هذه الإضافات، أن الولايات المتحدة ـ ومن ورائها إسرائيل ـ ستكون “شريكاً” في تحديد المواصفات، من دون إهمال “الشركاء الآخرين” من عرب، وعجم، لتمرير الإستحقاق.
الثاني، أن الترسيم ـ في حال بلوغ التفاهم بشأنه ـ سيفتح الباب اللبناني بالاتجاهين: الأول، أن التوقيع على الإتفاق سيتم تحت مظلّة دولية ضامنة. والثاني، أن المظلّة هذه، ستكون راعية لمسار انتخاب الرئيس، وتشكيل حكومة بمعايير صندوق النقد الدولي، والدول المانحة بمؤتمرات باريس 1، و2، و3، لتحقيق الإصلاحات، مقابل الحصول على مساعدات.
الثالث، يتناول التحوّل العميق في سياسة لبنان الخارجية.
لا أحد يتحدث هنا عن التطبيع بمفهومه الشمولي الواسع، ولكن الموضوعيّة تقضي الإعتراف بأن ما بعد التفاهم، ليس كما قبله، ولإعتبارات منها:
- إن المنطقة الأمنيّة الواردة في مسودة التفاهم، والتي تتحدث عنها “إسرائيل”، هي بمثابة “خطّ أزرق” بحري، بعهدة الأمم المتحدة، وقوات “اليونيفيل” العاملة في الجنوب، وبضمانات دوليّة تقتضيها المصالح وضمانات الإستثمار، والحاجة الماسة إلى غاز شرق المتوسط، ونفطه.
- حصول “مشترك” بين لبنان و”إسرائيل”، لجهة تفعيل المصالح. وبقدر ما تريد إسرائيل مناخات مؤاتية تمكنها من الإستثمار في بحر “كاريش”، كذلك الأمر بالنسبة للبنان للإستثمار في بحر “قانا”، من دون منغّصات.
- إن الوسيط الأميركي ـ في حال نجح في التوصل إلى تفاهم حول الترسيم ـ سيطوّر مهمته، لتتناول جوانب أخرى أمنيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، خصوصاً إذا ما أرغم لبنان على أن يكون نفطه وغازه ضمن مشروع “غاز المتوسط”. والذي تشارك فيه “إسرائيل” ومصر قبرص واليونان… وفي هذه الحال، سيكون هناك أكثر من مقال…
… لكن قبل كلّ ذلك، لا بدّ من إخراج “إتفاق الترسيم” من عنق الزجاجة الإسرائيليّة ـ الأميركيّة…!