مصير “مجد لبنان”.. من مصير الكيان!

/ جورج علم /

كان البيان “السنّي” الصادر عن دار الفتوى، ناقصاً. يحتاج إلى “همزة وصل”.

صيغ بأسلوب وطنيّ راق، لكن فات المجتمعين أن الإمتحان، هذه الدورة، لا يقتصر على اكتشاف المواهب، المهرة في كتابة الأدب السياسي، بل على أصحاب المبادرات، المهرة في تقديم مشاريع حلول بناءة.

قبله كان البيان الأميركي ـ السعودي ـ الفرنسي. وما قبل قبله، كانت عشرات البيانات الصادرة عن الجامعة العربيّة، والقمم الخليجيّة، وعواصم الدول المهتمّة، وقد انتهت مفاعيلها دون أثر.

لم تعد المشكلة محصورة بتشخيص المرض. المريض معروف، والعلّة مكتشفة، وتشخيص المرض من قبل اللجان الطبيّة، المسيحيّة أو السنيّة أو من طوائف أخرى، يكاد أن يكون واحداً، لكن الخلاف حول سبل العلاج. البعض ينصح بالمسكنات، البعض الآخر بتناول العقاقير، آخرون ينادون بعمليّة جراحيّة دون تقديم أي ضمانات حول النتائج، وهل ستكون ناجحة، وتقتلع العلّة، أم تؤدي الى مضاعفات خطيرة لا عودة منها؟!

هناك قناعة متداولة لدى غالبية الناس، مفادها أن “الدير القريب ما بيشفي”! ولكن هل الخارج مستعد؟ ثم أيّ خارج؟ هذا هو السؤال الذي لا جواب عليه، وإذا كان من جواب فهو مخيف، ومقلق، لأن المواصفات المطلوبة غير متطابقة، وكلّ “خارج” له رأيه، ومقاربته المنسجمة مع مصالحه، والمتناقضة مع مقاربات الآخرين. وإذا كانت أميركا متفقة مع فرنسا والسعودية حول لبنان، فهل يسري التوافق هذا على روسيا، وإيران، ودول عربيّة وغربيّة أخرى مهتمة؟

عندما تتحوّل الدول الى كيانات فاشلة. تتغيّر الأساليب. ويصبح التدخل الدولي لرعاية “المحميات”، و”الأقليات”، من باب تحصيل الحاصل. لنا من التاريخ شواهد، وقد عرف لبنان “حكم القناصل”، و”الباشوات”، في زمن المتصرّفيتين، وهذا ما يدلّ على أن الحسابات الخاطئة، تنتج دائماً رهانات خاطئة. وليست العبرة في ما تتضمنه البيانات المحليّة، والدوليّة، من “مغريات” مفخخة، أو وعود مسمومة. العبرة أنه عندما تصبح الدولة فاشلة، يصبح القبض على أنفاسها، والتحكّم بمقدّراتها، أقل كلفة، ومن دون شروط ملزمة، بخلاف ما يكون عليه الوضع عندما تكون على مناعة داخليّة قويّة، ومرضها قابل للشفاء دون إستخدام المباضع والسكاكين!

وإذا كان أهل السنّة أكثر أملاً، وإطمئنانا، وربما قدرة، وفاعليّة على الصمود والتصدي لكل المحاولات الهادفة إلى بلوغ فشل الدولة، من خلال ما تضمّن بيان دار الفتوى من حرص شديد على الطائف، وصيغة العيش المشترك، والأساسات الكبرى التي قام عليها لبنان بشارة الخوري ورياض الصلح، فإن المخزون الوطني الكبير، الجامع، المنفتح، والريادي، لدى المسيحيين عموماً، وبكركي خصوصاً، بدأ ينضب نتيجة غياب الضمير الوطني، والشعور الإنساني، لدى غالبية المسؤولين المؤتمنين على مقدرات البلاد، وأرواح العباد.

وهناك ملاحظتان يُستحسن التوقف عندهما:

الأولى، كلام البطريرك في عظة الأحد عن: “… أي سعي لتعطيل الإستحقاق الرئاسي، إنما يهدف الى إسقاط الجمهوريّة من جهة، ومن جهة أخرى إقصاء الدور المسيحي، والماروني تحديداً، عن السلطة، فيما نحن آباء هذه الجمهوريّة، وروّاد الشراكة الوطنيّة”.

الثانية، ما أعلنه فارس سعيد، عن وجود “مخططات تستهدف بلاد جبيل، وكسروان، وتهدف إلى تغيير الهويّة الثقافيّة، والسكانيّة، لهذه المحافظة”!

وفي عودة إلى كلام البطريرك، يجدر التوقف عند محطتين:

الأولى، كلامه عن “إقصاء الدور المسيحي، والماروني تحديداً عن السلطة”.

لقد تأخر صاحب الغبطة عن البوح. إن مثل هذا الشعور، إنما هو موجود بقوّة في الداخل المسيحي، والماروني تحديداً، إن لم يكن عند الغالبيّة، فعند شرائح واسعة بالتأكيد، خصوصاً بعدما بلغ اليأس، والإحباط، والقلق، مبلغاً في النفوس، نتيجة تردّي الأوضاع المعيشيّة والحياتيّة، على كل المستويات في ظلّ منطق السلاح!

كثيرون من المسيحييّن ليسوا في الموقع الذي يدين الطائف. ولا هم في الموقع الذي يحاول أن يحمّل الطائف كل الأخطاء والرزايا، التي أوصلت البلاد الى ما هي عليه الآن. لكن هناك الكثير من المسيحييّن، والموارنة تحديداً، يرون أن الطائف قد جرّد المسيحي الماروني الأول في السلطة، الكثير من الصلاحيات، وجعله في موقع بروتوكولي، أكثر ممّا هو عملي.  كما أن الممارسات الني ارتكبت باسم الطائف، قد مكّنت شركاء آخرين، عن غير وجه حق، إلى الإفتئات، والتوغل في شرايين الدولة، والمؤسسات، وتحويل مناصب إداريّة، وحقائب وزاريّة حسّاسة، حكراً على مذهب، وفئة محددة، وكأنها عقارات يتمّ الإستيلاء عليها بالقوّة، وتحويلها الى أملاك خاصة للطائفة، أو المرجعيّة!

الثانية، كلامه عن: “… نحن آباء هذه الجمهوريّة، وروّاد الشراكة الوطنيّة”.

هذا الكلام ، وإن كان مقبولاً، أو مسكوتاً عنه في السابق، لم يعد كذلك الآن. لا بل أصبح مرفوضاً عند البعض، وتحوّل إلى عنوان في المواجهة المفتوحة لتغيير قواعد السلوك التي آمن بها الكيان اللبناني، والأسس، والمسلمات التي قام عليها، والرسالة الإنسانيّة التي ميّزته في المحيط، والعالم، وفي طليعتها الحياد الإيجابي، والتنوع الثقافي، والإنفتاح على الشرق والغرب، والحريّة المجتمعيّة…

في الأمس القريب، خرج من الصفوف من يقول: ” إنتو مين؟!… ومن قال إن مجد لبنان قد أعطي لكم؟ من أعطاكم هذا المجد؟ إن مجد لبنان أعطي للمقاومة؟!”.

وفي الأمس القريب، خرج من يفرض معادلة ذهبيّة على الناس، ليست في الطائف، ولا هي من صنيعه، ولا من دستوره!

وفي الأمس القريب، والأمس، واليوم، هناك من يتحدث عن مكون وطني أساسي آخر، غير المسيحي، والماروني، مستهدف منذ شباط 2005 ولغاية الأمس، تاريخ البيان الصادر عن دار الإفتاء… فما الجدوى من هذا البيان، وسائر البيانات المماثلة، إذا كان هناك من يؤمن بأنه أقوى من البلد، والطائف، والدستور، ويريد أن يصحح التاريخ، ويغيّر المعادلة على قاعدة “لبنان الماضي إنتهى..  ولبنان الجديد لا يكون، إلاّ وفق ما نريد؟!