/ جورج علم /
تعلن النائب السيدة نجاة صليبا، قبل أيام، أن “روائح كريهة تفوح في بيروت نتيجة الحرائق في أهراءات المرفأ، وما زلنا ننتظر الخطة لحل هذا الموضوع، لأن ما يحصل جريمة جماعيّة غير مقبولة”.
لاقى الموضوع تجاوباً من جانب وزير البيئة ناصر ياسين، الذي وعد بالمعالجة. والوعد في امتحان.
ليست الروائح المنبعثة من الأهراءات وحدها كريهة. ماذا عن تلك المنبعثة من وزارات الخدمات؟
يقول سفراء متابعون: “جائحة الفساد عندكم، بمراحلها الأولى قد انتهت، لم يبق من مال، ولا من مدّخرات، لقد نهبت، وبدأت معالم الجائحة الثانية الهادفة الى الاستئثار بالوزارات الخدماتيّة، كونها الضرع الذي يدرّ، والمنبع الذي يغذّي، والبيدر الواعد بالغلال”!
بعد انهيار المؤسسات، هناك تنافس جدّي حول “حصر الإرث”، كل طرف يريد الهيمنة على مقدرات الوزارة الخدماتية التي يشغلها فريقه السياسي.
بعض المطلعين على المسار الحكومي، يؤكدون أن عقدة التأليف ليست حكراً على طرف، بل على مجموعة أطراف، وكلّ يريد أن يستأثر بما لديه، ويزيد مما قد يتوافر له من مكاسب إضافيّة!
لم تعد وزارة المال وحدها من يحمل “صك ملكيّة”. ماذا عن وزارة الطاقة؟ ماذا عن وزارة الأشغال التي تخضع لعمليّة تأهيل مبرمجة كي تكتسب بدورها مثل هذا الامتياز؟
الفريق السياسي الذي يدير شؤونها، اكتشف مناجم ذهب، من مرفأ بيروت، إلى طرابلس وسلعاتا وصيدا وصور. ومن مطار رفيق الحريري، إلى مطاري القليعات ورياق. وتبقى العين على شبكات سكك الحديد في كلّ لبنان، وتلك التي يفترض أن تربط المرفأ والمطار بالحدود مع سوريا. ثم ماذا عن قطاع النقل العام؟ وهل يقتصر الأمر على هبة الباصات الفرنسيّة، أم أن ما ظهر إنما هو جانب من الأكمة، وتبقى الكنوز طيّ الرواسي؟!
لبنان ليس متروكاً “داشراً”. هناك بعثات تراقب، وتنقّب بالمستور، والمطمور. الروائح الكريهة ليست حكراً على الأهراءات. العفن الحقيقي، المخمّر، والمؤكسد، ينفث سمومه من مسام التحقيق المدفون في مجاهل الحسابات الحساسة، والاعتبارات المصلحيّة. لماذا سجن التحقيق وراء قضبان الفئويّة، والجهويّة، والمحسوبيّة؟ أين الحقيقة؟ متى يرفع النقاب عن التقرير الاتهامي؟ الحريق الكبير ما زال يعثّ في هذا الملف، وينشر المزيد من الروائح الكريهة.
والفرنسيّون أدرى بالمرفأ، وشعابه، ولكنهم برغماتيّون أصحاب مصالح. وزير الأشغال العامة والنقل علي حميّة، أهداهم عقداً لإدارة محطة الحاويات، وتشغيله وصيانته، لمدة عشر سنوات، ويشمل إعادة البناء، وتوسعة البنية الأساسيّة التي دمّرت.
شركة “سي أم إيه سي جي أم”، التي استحوذت على العقد، تسيطر أيضاً على محطة الحاويات في مرفأ طرابلس، ولها وجود بميناء اللاذقيّة في سوريا. وكانت قد عرضت خططاً منفصلة على السلطات اللبنانية، لاستثمار ما بين 400 الى 600 مليون دولار لإعادة بناء بقيّة المرفأ.
الوزير حميّة كان قد عرض مع نظيره الفرنسي جان باتيست جباري، موافقة الحكومة الفرنسيّة على الهبة المتعلّقة بالباصات، واستعدادات فرنسا لمشاركة لبنان في خبراتها في موضوع المرفأ، وعلى كافة المستويات، وإمكانية استفادة مطار بيروت الدولي من المعايرة والدعم الفنّي لنظام توجيه الرسائل الجويّة (THALES)، إضافة الى تعزيز دور شركة طيران الشرق الأوسط في أوروبا. ووضع دراسة شاملة وافية حول شبكة سكك الحديد، وأهمية ربط المرفأ والمطار بخطوط إلى المناطق اللبنانيّة، وصولاً الى الحدود السوريّة.
السفيرة الفرنسيّة في بيروت تكمل المهمة. إنها حريصة على مصالح بلادها الحيويّة. زياراتها إلى الضاحيّة الجنوبيّة، شبه دوريّة للتنسيق، والتشاور.
المسؤولة في وزارة الخارجيّة الفرنسيّة إيناس بن كريم، والمعنيّة بملفات لبنان وسوريا ومصر وفلسطين في الخارجيّة، على تواصل مستمر مع مسؤولين في “حزب الله”، وكانت في بيروت مؤخراً، وشاركت في مؤتمر حول “الأونروا”، وعقدت سلسلة اجتماعات بعيداً عن الإعلام. مصالح فرنسا ـ عندها ـ فوق ايّ إعتبار، ونظرتها إلى لبنان هي من زاوية مصالح بلادها فيه.
هل تحوّل المرفأ إلى مشروع شراكة فرنسيّة ـ جهويّة؟
الوزير حميّة يقول: “خطة إعمار المرفأ ستكون مفتوحة أمام جميع الشركات العربيّة والعالميّة، باستثناء الإسرائيليّة، ولن نسمح بتركه رهن التجاذبات السياسيّة، الداخليّة والخارجيّة”.
ولم يعلن عن امتياز خاص لشركات فرنسيّة، أو إيرانيّة، لكن الإحتمال وارد.
ومن “الإنبعاثات” أيضاً، الإجتماعات التي بدأت مؤخراً، وحضرها إلى جانب الوزير حميّة، المدير العام لمرفأ بيروت عمر عيتاني، وممثلون عن شركة خطيب وعلمي، بهدف “وضع الإطار لإعداد دفتر الشروط” لإزالة الركام الذي يشغل مساحة واسعة من المرفأ، بهدف “الإستثمار الأمثل لتلك المساحة”، وفق الوزير.
والأهم أن النقاش حول المزايدة، إنما يحصل من دون علم هيئة الشراء العام، التي ينيط بها القانون الذي دخل حيّز التنفيذ في 29 تموز الماضي، إجراء رقابة على هذا النوع من التلزيمات.
ما يجري في المرفأ، يجري في الكثير من الوزارات الخدماتيّة. هناك عملية “وضع يد” ممنهجة تتولاّها معظم الفئويات، وعمليات “حصر إرث” لما تبقى من دولة، ومؤسسات، تحسبا للآتي!
الروائح الكريهة تنبعث من أكثر من مكان!