| ماهر سلامة |
اختلفت انعكاسات الحرب الأخيرة مع “إسرائيل” عن حرب 2006 على الاقتصاد اللبناني. وكان لهذا الاختلاف أوجه عدّة من ناحية الدمار ونوعه وما أصاب، لكنه أهمها ما يتعلّق بالظروف الاقتصادية، سواء كان مصدرها محلياً أم خارجياً. فإثر عدوان 2006، لوحظ اندفاع كبير للدول، وخصوصاً الدول العربية، من أجل المساهمة في إعادة الإعمار، أما اليوم، فهذا الأمر محور شكوك عن رغبة هذه الدول في تكرار التجربة والثمن السياسي الذي تبتغيه.
أتى العدوان الأخير على لبنان، وسط ظروف اقتصادية استثنائية. إذ إنه قبل بضع سنوات، أصيب اقتصاد لبنان بانهيار كامل للنقد وللقطاع المصرفي من دون أن يتمكن من النهوض. عملياً، بلغ القعر ولم يتجاوز هذا المستوى بعد نحو الحدّ الأدنى من التعافي. بل ازدادت التشوّهات في بنية الاقتصاد والمجتمع إلى درجة باتت تثير تساؤلات عن اقتصاد لبنان في المدى المتوسط والبعيد.
من اللافت أن الناتج المحلّي الإجمالي في عام 2006 لم يختلف كثيراً عن الناتج في 2024، إذ كان في حينه 22 مليار دولار، ويُتوقع، بحسب تقديرات البنك الدولي المحدّثة، أن يبلغ 22.7 مليار دولار في نهاية 2024. بدا كأن الزمن لم يمرّ في لبنان الذي خسر 18 سنة من النموّ مع كل الفجوات العميقة في مصادر هذا النموّ وفي مساراته المتفاوتة اجتماعياً وقطاعياً. وعلى صعيد الأضرار المباشرة والخسائر الاقتصادية، يقول البنك الدولي إنها بلغت نحو 8.5 مليارات دولار في الأسبوع الذي سبق نهاية الحرب، وهي موزّعة على: 3.4 مليارات للأضرار، و5.1 مليارات دولار للخسائر. هذا يعني أن حجم الخسائر الإجمالي، بلغ في الحرب الأخيرة نحو 37% من الناتج المحلي، بينما بلغت الخسائر الاقتصادية في 2006 نحو 2.3 مليار دولار والخسائر المادية نحو 3.2 مليارات دولار، أي ما مجموعه 5.5 مليارات دولار وما يعادل 25% من الناتج المحلّي في ذلك الوقت.
من الواضح أن الخسائر المادية لم تختلف كثيراً بين الحربين، مع العلم أن نوع الدمار اختلف قليلاً، إذ إن حرب 2006 أضرّت بالبنى التحتية للدولة، من مطار ومعامل كهرباء وطرقات أساسية وجسور، في حين أن حرب 2024 لم تتضمّن هذه الأضرار، بل كانت خسائرها المادية متركّزة على المباني السكنية. من المهم الذكر أن حرب 2024 (66 يوماً إذا اعتبرنا أنها بدأت في 23 أيلول 2024) استمرّت ضعف مدّة حرب 2006 (33 يوماً).
يقول البنك الدولي إنه نظراً إلى نقاط الضعف الحالية التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، فمن المتوقع «أن يتجاوز الأثر الاقتصادي للحرب أثر حرب 2006، وذلك بسبب الظروف الاقتصادية الكلية الأولية المختلفة بشكل ملحوظ قبل الحرب». فقد اندلع الصراع الحالي على خلفية انكماش اقتصادي تراكمي حاد بلغ 34% من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في السنوات الخمس الماضية. يُضاف إلى ذلك التخلف عن سداد الديون السيادية، والأزمة المصرفية النظامية، ونفقات رأس المال المحدودة وتدفقات الاستثمار، وتقليص تقديم الخدمات العامة. ما يحاول قوله البنك الدولي، إن إطار الاقتصاد الكلّي الضعيف والقدرة المالية المحدودة للدولة، سيحدّان من قدرة السلطات على تقديم المساعدة الطارئة. كما أن إفلاس القطاع المصرفي في لبنان يعني أنه غير قادر على إقراض القطاعات الإنتاجية، أو تمويل إعادة الإعمار والاستثمار. وفي المقابل، فإنه في عام 2006 حين لم تكن هذه الأمور قد حصلت، لم يتأمن تعافي الإنتاج، بل على العكس، جاء التعافي من النموذج الريعي الذي نما بعد الحرب بشكل كبير، ثم أتت التدفقات الرأسمالية التي نتجت من هروب الرساميل من الأزمة المالية العالمية إلى لبنان باعتباره لم ينخرط في أدوات السوق المالية العالمية التي انهارت، لتلعب دوراً كبيراً في تضخّم الاقتصاد اللبناني وزيادة اختلالاته البنيوية.
ويتحدّث البنك الدولي عن مسألة أساسية استفاد منها لبنان في المدة التي سبقت عدوان 2006، والمتعلقة ببرامج المساعدات في باريس 2 التي كانت قد أعطت الاقتصاد اللبناني دفعة سابقة للحرب ومن ضمنها لعبت الودائع من السعودية والكويت، والتي بلغ مجموعها 1.5 مليار دولار أميركي، دوراً محورياً في استقرار القطاع المصرفي والحفاظ على تثبيت سعر العملة. وبالإضافة إلى ذلك، تم تعويض التكاليف المالية الناجمة عن حرب 2006 عبر دعم المانحين من مؤتمر باريس 3.
خسائر قابلة للتعويض
يشير البنك الدولي إلى أن الخسائر الكبرى تتعلّق بعاملين؛ الأول هو الخسائر التي حلّت بالإيرادات الآتية من السياحة، والتي يقدّر أنها بلغت في 2024 نحو 1.3 مليار دولار. أما الثاني، فهو خسارة 2.93 مليار من الاستهلاك الذي يعدّ أحد أهم فروع الاقتصاد اللبناني. ورغم إشارته إلى أن الخسائر الاقتصادية الناتجة من عدوان 2024 يصعب تعويضها، إلا أنه يلفت إلى أن هذين النوعين من الخسائر، تحديداً، سهل التعويض، لأنهما مرتبطان بالظروف الأمنية الاستثنائية التي إذا تحسّنت، فستنعكس إيجاباً بشكل متدرج، إذ يعود سلوك المستهلك اللبناني شيئاً فشيئاً إلى ما كان عليه، كما تعود الحركة السياحية (وهي تقوم بشكل أساسي على حركة المغتربين اللبنانيين إلى لبنان) إلى طبيعتها.