| ماهر سلامة |
يقول البنك الدولي في تقريره الصادر أخيراً بعنوان «تحليل الأضرار والخسائر في لبنان»، إن الخسارة اللاحقة بالعمال بسبب النزوح حتى 6 تشرين الأول 2024 بلغت 166 ألف وظيفة، مشيراً إلى أنه نتج من ذلك تراجعاً في مداخيل هؤلاء بقيمة تقدّر بنحو 168 مليون دولار. وهذا الرقم لا يتضمن الخسائر اللاحقة بالعمال في المناطق التي تصنّف «آمنة»، وقد احتُسب على أساس أن المعدّل الوسطي للأجر هو 84 دولاراً شهرياً، وذلك بناء على إحصاء نفذته منظمة العمل الدولي في عام 2022.
ويلفت إلى أن هذه الأرقام ربما قد تغيّرت اليوم. وبحسب التقرير، فإن هذه الوظائف تتوزّع على القطاعات، وهي جزء من الخسارات العامّة التي يتحمّلها الاقتصاد اللبناني بسبب الحرب. أما أكثر القطاعات المتأثرة بالحرب، فهو قطاع التجارة الذي تبلغ قيمة الأضرار المباشرة التي أصابته نحو 178 مليون دولار إلى جانب خسائر في النشاط الاقتصادي الفائت مقدرة بنحو 1.7 مليار دولار. والمقصود بالأضرار المباشرة، الخسائر المادية الناتجة من القصف الإسرائيلي. ومعظم هذه الأضرار والخسائر، بحسب ما يقول البنك الدولي، تأتي بسبب خروج الموظفين وأصحاب العمل من المناطق المعرّضة للعنف الإسرائيلي بشكل أساسي. ونحو 83% هي في هذه المناطق، في حين تعرّض القطاع في المناطق اللبنانية الأخرى إلى 17% من الخسائر المذكورة.
لكن لم يشر التقرير بأي شكل من الأشكال إلى واقع ميداني ظاهر للعيان يتعلق بما يحصل مع النازحين، ولا سيما العاملون لحسابهم الذين يعيدون بناء أشغالهم في مناطق النزوح وفتح محالهم التجارية في مناطق التركّز الاقتصادي الجديدة، وخصوصاً في بيروت الإدارية التي شهدت نزوحاً كبيراً أسهم في زيادة الحركة الاستهلاكية فيها بشكل لافت. والكثير من أصحاب المصالح هؤلاء أعادوا الموظفين الذين كانوا يعملون معهم قبل الإقفال عند بداية الحرب.
أيضاً هناك خسائر في الوظائف مصدرها قطاع السياحة الذي يضمّ 4.4% من القوى العاملة في لبنان. فقد تعرض هذا القطاع لأضرار مباشرة تقدّر بنحو 18 مليون دولار، وخسائر في النشاط الاقتصادي تقدّر بنحو 1.1 مليار دولار. وكان هذا القطاع قد تضرّر من تراجع حجم السياحة في الأشهر الأولى من الحرب، قبل توسّعها في أيلول.
عملياً، المناطق التي تأثّر عمّالها من الحرب بشكل أكبر نسبياً، هي مناطق الجنوب، بعدما اضطر السكان إلى النزوح نحو مناطق بعيدة عن أماكن عملهم التي تضرّرت أصلاً. أما في مناطق أخرى، مثل الضاحية، كان جزء كبير من عمّالها مرتبطين بالمركز الاقتصادي للبلد، وهو بيروت. كما أسهمت سهولة نقل المصالح من الضاحية إلى بيروت بتخفيف وطأة النزوح على البطالة، لكن لا شكّ أنها تحمل، عددياً، الحمل الأكبر من الوظائف الضائعة. لا توضح أرقام البنك الدولي كيف تتوزّع خسارة الوظائف على المناطق، إلا أنه يمكن تقدير ذلك عبر توزّع الوظائف بشكل عام على المناطق. فبحسب أرقام الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولي، فإنه من عام 2019، يظهر أن عدد العمّال في الجنوب يبلغ نحو 280 ألفاً. في حين يبلغ عدد العمّال في منطقة جبل لبنان، التي تضمّ تركّزاً كبيراً في الضاحية الجنوبية لبيروت، نحو 753 ألفاً. و12 ألفاً من العمّال في الجنوب يعملون في قطاع الزراعة، وهؤلاء الذين يمكن التقدير بأنهم خسروا أعمالهم ومداخيلهم بشكل شبه كامل بسبب الحرب. في حين أن 52 ألفاً من عمّال الجنوب يعملون في قطاع الخدمات والمبيعات، جزء من هؤلاء استطاع إعادة تركيز أعماله إلى مناطق النزوح.
ولكن هناك الكثير ممن تضررت أعمالهم لأنهم لم يستطيعوا نقلها. أما العمّال المهرة، من الفئة المتخصّصة التي لديها خبرة في القيام بنوع معين من الأعمال يتطلب مجموعة من المهارات اليدوية بدلاً من الأعمال الروتينية اليدوية البسيطة، فعددهم في الجنوب يبلغ 62 ألفاً، وهم لا يستطيعون نقل أعمالهم، لكن هذا الأمر يحتاج إلى وقت غير قصير لأنهم يحتاجون إلى الانخراط في السوق الجديدة واكتساب السمعة وغيرها، كما أن أعمال بعض هؤلاء تحتاج إلى نقل آلات ثقيلة (مثل الحدادين وغيرهم)، وهو ما يمكن أن يكون عائقاً أمام عملية النقل. أما العمال غير المهرة، فعددهم من بين عمّال الجنوب يبلغ نحو 46 ألفاً، وهؤلاء يصعب تعويض أعمالهم المفقودة في أماكن أخرى. أما الباقون وهم الأقليات، فيعملون في وظائف إدارية متوسطة وعليا مثل مديرين في الشركات، بالإضافة إلى عسكريين واختصاصيين وسائقي آليات وسيارات.
من الطبيعي أن تنعكس الحرب على معدلات التوظيف في الاقتصاد، وخصوصاً مع عملية النزوح الهائلة التي شهدها البلد. وفي هذه الحالات، يحتاج السوق وقتاً طويلاً للاستقرار، وكلما مضى الوقت على هذه الحالة، تتراكم الخسائر على الاقتصاد أكثر ويصبح الوضع المعيشي أصعب. إلا أن إعادة استقرار السوق، قد يسهم في تعافٍ جزئي لتعويض هذه الخسائر.