| علاء حسن |
لا تُكتب عادة روايةُ الحروب إلا بعد انتهائها، وبعد مرور زمن يسمح بكشف خفايا ما جرى أيام القتال، وهو أمر مرتبط من ناحية بالأسرار التي يسعى الأطراف للحفاظ عليها قدر المستطاع، ومن ناحية أخرى حتى تبرد القلوب وتستطيع قراءة الرواية من دون التفاعل المبالغ معها.
لكن الأمر مختلف في حالة حرب غزة… هذه الحرب هي من جهة حرب مستمرة منذ شهرين ونصف الشهر، ومن جهةٍ أخرى هي مجموعة من الحروب المتلاحقة التي تشبه إلى حد بعيد الزلزال والهزات الارتدادية التي تليه، فلا أحد يتنبأ بما يمكن أن يحصل بعد الزلزال، ولا أحد يستطيع تخمين إلى أي مستوى ستكون قوة الهزات الارتدادية وما سينتج عنها.
الأمر يدعو إلى قراءة ما جرى منذ شهرين ونصف، لعل ذلك يسمح باستشراف شيء مما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة، ولنرى متى وكيف ستنتهي حفلة الإجرام المجنونة هذه.
بدايةً، وبصرف النظر عمن أوقع مَنْ في الخداع الاستراتيجي، وقد قيل الكثير حول هذا الأمر، لا يختلف إثنان على أن ما جرى في السابع من تشرين الأول الماضي، كان زلزالاً هزّ هدوء المنطقة برمتها، حتى نخاع العظم، وأسّس لمرحلة جديدة لا تشبه ـ في مختلف جوانبها ـ ما اعتاد الناس عليها طيلة عقود من الزمن.
أما وقد وقع هذا الزلزال، فقد أصبح من السذاجة التلهّي بمسبباته في هذه المرحلة. يمكن دراسة أسبابه بدقة بعد عقود من الزمن لأخذ العبر. بل إن الحكمة تقتضي التنبّه لـ”الهزات الارتدادية” والتعامل معها بحسابات دقيقة، حتى نتمكن من الخروج منها بأقل الأضرار الممكنة.
طبعاً لا يعني هذا الكلام عدم دراسة الزلزال نفسه، لأن السياقات اللاحقة للسابع من تشرين الأول، هي امتداد لهذا الزلزال. وبالتالي لا يمكن مواكبة الأحداث اللاحقة من دون الانطلاق من الحدث الأساسي، وهو ما يمكن العمل عليه وفق فرضيتين مرتبطتين بنظرية “الخداع الاستراتيجي” بين طرفي النزاع الأساسيين في معركة “طوفان الأقصى”.
الفرضية الأولى:
تقضي هذه الفرضية بأن الكيان، ومعه مجموعة الدول الغربية المنضوية تحت سيطرة الولايات المتحدة الأميركية، وبطبيعة الحال اللوبيات الصهيونية، هيأت المناخ لحركة “حماس”، ورسمت لها المشهد بطريقة يمكنها من تنفيذ عملية بحجم عملية “طوفان الأقصى”، والتي أوجدت اهتزازاً عميقاً في نظرية الردع الإسرائيلية، بحسب الظاهر، وعليه أصبح لزاماً على “إسرائيل” خوض حرب وجودية مفتوحة من دون قيود، تتخلّص فيها من هذا التهديد، والذي لم تعرفه تقديرات الأجهزة الأمنية الصهيونية بالتهديد الوجودي أبداً في السابق، وتعيد الهيبة للكيان من جديد. وبالتالي تردع باقي أطراف محور المقاومة عن أي عمل يخططون له في المستقبل، القريب أو البعيد، وفي نفس الوقت ينفذون الخطط التي من أجلها تمت تهيئة مسرح العمليات بالشكل الذي شاهده العالم يوم السابع من تشرين الأول والذي تم تشريحه في وقت سابق تحت عنوان: “خريطة طريق” الحرب.. تسبق “توقيت” نصر الله.
ويستند أصحاب هذه الفرضية إلى مجموعة من الأحداث والمواقف، قبل وبعد العملية، أهمها وصف رئيس وزراء الكيان للعملية بـأنها “11 أيلول”، في إشارة إلى هجوم 11/9/2001 على برجي التجارة العالمية في نيويورك وعلى وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون”، والذي تبين لاحقاً أن الدولة العميقة في أميركا كانت على علم بالعملية، وأنها احتاجت إلى ضربة بهذا الحجم لتبرير سلوكها اللاحق عالمياً، بالإضافة إلى ما يصفونه من أهداف مرتبطة بملفات كبرى مثل الطاقة وخطوط التجارة الدولية.
وقد تأكدت لدى هؤلاء هذه الفرضية بعد الحديث عن تهجير الفلسطينيين، وإفراغ قطاع غزة من أهله، ومقاومته، وما تلا ذلك من مواقف إقليمية ودولية حول إدارة القطاع بعد انتهاء الحرب.
الفرضية الثانية:
يقول أصحاب الفرضية المعاكسة إن “حماس” خلقت مناخاً، على مدى سنوات، يوحي بأنها لا تريد خوض صراع كبير مع العدو، بل تتجه لتثبيت نجاحها في إدارة الحكم في غزة لتصل إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولتخلف حركة “فتح” التي تمسك بزمام المنظمة تقليدياً، وبالتالي تصبح الممثل الأكبر للشعب الفلسطيني، وما يعنيه ذلك من امتداد اخواني يمكن أن يفتح الباب أمام تسوية على حدود العام 1967، تشكل منطلقاً لمرحلة جديدة في تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني. ولكنها في الواقع كانت تؤسس لتفجير الصراع مع العدو، لعلمها أن استمرار الهدنة لفترات طويلة ليست في صالح القضية الفلسطينية التي تحتاج شعلتها أن تبقى مشتعلة بفعل المقاومة والتضحيات. ولهذا الأمر أعدت العدة من أجل كسر الكيان داخل القطاع، والتأسيس لمرحلة جديدة من الصراع مع العدو الصهيوني، لكن وفق معادلة الردع المنخفضة، والأزمات السياسية الداخلية لدى الكيان.
ويستند هؤلاء في إثبات هذه الفرضية على المعلومات التي حصلوا عليها من قيادات “حماس” مباشرة، بالإضافة إلى مواقفها المعلنة، خصوصاً في جولات القتال السابقة، حين كانت تصرح لحلفائها داخل غرفة العمليات المشتركة أنها تدّخر قدراتها لمعركة أكبر وأكثر شمولاً، ولا تريد استنزاف طاقاتها في جولات من هذا النوع.
يؤكد أصحاب هذه الفرضية أن حجم العملية وتأثيرها كان كبيراً، لدرجة أن “إسرائيل” واجهتها بحرب وجودية غير مسبوقة لم تعد تحتمل معها هذا التراكم من القوة، والذي يؤدي إلى تنفيذ عملية من هذا النوع لم تحصل في تاريخ المقاومات ضد العدو الصهيوني.
لكن، يبدو التحليل أمام مشتركَيْن جوهريين بين الفرضيتين:
الأول، هو الحق المشروع للفلسطينيين في تنفيذ عمليات عسكرية مقابل الاحتلال.
الثاني أن “إسرائيل” تخوض حرباً وجودية استدعت تظافر الجهود الاستعمارية، بمفهومها الشامل، وضربت مفهومين أساسيين في قتالها في هذا السبيل، وهما النفس القصير والخوف من سقوط القتلى.
ولهذا، كان الحديث في البداية حول عدم جدوى الخوض في مسببات الزلزال، والتركيز على ما جرى بعده.
- غداً الجزء الثاني من رواية “الطوفان”: معادلات دقيقة في “المعارك الإرتدادية”.. من ينتصر؟ .