| جورج علم |
بدت الدورة العاديّة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة باهتة هذا العام. إنحسرت الحرارة، غابت الحيويّة، أدركها الروتين، سادتها البرودة، وربما تأثرت بتغيير المناخ.
كان المنبر شاحباً. غابت الكلمات الرنانة، والخطابات المدوّية، وحضر الدرس المقيّد بقواعد البروتوكول، على الرئيس أن يقف وراء الميكرفون، أن يتكلّم، ولا همّ إن كان الكلام من نوع “المخمّس المردود”، تكراراً للمعزوفة، والمواقف المعروفة.
غابت النجوميّة والنجوم. حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بربطة عنق، فيما غاب مالىء الدنيا، وشاغل الناس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان منهمكاً باستقبال ضيفه ملك الصواريخ الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
حضر الرئيس الأميركي جو بايدن، فيما غاب الرئيس الصيني شي جينبينغ. كان البيت الأبيض يحضّر للقاء بين الرئيسين على هامش الدورة، إلاّ أن الرئيس الصيني فضّل إستقبال الرئيس السوري بشار الأسد في ضيافته، بدلاً من تحمّل مشقة السفر الى نيويورك للقاء صديقه الأميركي اللدود جدّاً.
لم تعد المنظمة الدوليّة قبّة الشمس في قارعة النهار، ولا البدر الساطع الذي ينير ظلمة الليل. قالت وزيرة خارجيّة ألمانيا أنالينا يبربوك: “يشعر كثير من الناس، عن حق، بأن نبضات قلب الأمم المتحدة لم تعد تعمل بشكل صحيح”، مؤكدة أنه من المهم للغاية أن يجتمع العالم في نيويورك لإعادته ولو قليلاً إلى المسار الصحيح”. وقالت: “تبيّن لي خلال المشاركة في أعمال الدورة، أن الغالبيّة العظمى من العالم تريد مزيداً من التعاون الدولي، وإيجاد حلول مشتركة”.
لم تكن الصوت الوحيد المطالب بالتغيير. كثير من زعماء العالم يطالبون بتحديث آليات عمل المنظمة الدوليّة، وتطوير مجلس الأمن، إلاّ أن من يملك ناصية القرار يرفض أي تغيير أو تحديث، والولايات المتحدة في الطليعة، حرصاً على الهالة والنفوذ الدولييّن. والدليل أن من حضر إلى نيويورك هذا العام كان فريق زيلينسكي، وبعض الوسطيّين، أو المستقليّن، أو أعضاء دول “الكومبارس”، فيما غاب الفريق الآخر، أو قلّل من حضوره، أو حضر شكليّاً لأخذ الصورة.
الصراع ما بين سياسة القطب الواحد، وعالم المتعدد الأقطاب، لم يعد ترفاً إعلاميّاً، أو موقفاً يتمظهر بمناسبات معينة، أو مزايدات إستهلاكيّة. الصراع حول أوكرانيا شطر العالم بشكل عنيف، وحاد، الولايات المتحدة، ومعها الإتحاد الأوروبي، وحلف “الناتو” من جهة. وروسيا، ومن معها، من جهة أخرى. شدّ الحبال ما بين توجهين، ومعسكرين، واستقطابين حول تايوان، لا يصنّف من فئة ألعاب الخفّة فوق حبال بهلوانيّة، بقدر ما ينذر بعواقب خطيرة عند أول دعسة ناقصة. أصبح البحث عن الرغيف، ولقمة العيش، والسلّة الغذائيّة، وليتر البنزين، من الهموم المشتركة على مساحة الكرة الأرضيّة، ولدى الدول الغنيّة، كما لدى الدول الفقيرة، والمشترك، صيحات الإستهجان في كل مكان.
محليّاً، عاد وفد لبنان بعدما اجتمع واستمع، لكن من دون هيصة، من دون باقة زهور على أرض المطار، من دون رشقات إعلاميّة من الوزن الثقيل حول المهمّات والإنجازات. الحضور يكفي. شغل المقعد في القاعة إنجاز، حتى لا يستفيق العالم على غياب لبنان صوتاً وصورة. لا مكان للصغار في صراع الفيلة، والجو الدولي ملبّد بغيوم سوداء داكنة، والتغيير المناخي يضرب من دون هوادة، ولا أحد من عظماء العالم يدري من أين سيهبّ الإعصار المدمّر.
طلب الرئيس نجيب ميقاتي موعداً مع وزير الخارجيّة الأميركي، فأوفد إليه مساعدته، وبقيت الأمانات في المجالس، لكن بعد مرو ر بعض الوقت إنهمر وابل من الرصاص على مدخل السفارة الأميركيّة في عوكر. هل من رابط بين هذا التزامن؟ الأمر متروك للقضاء…
رئيس الدبلوماسيّة اللبنانيّة الوزير عبد الله بو حبيب كثّف إعلامه حول لقاءاته، واجتماعاته، ولكنها جاءت بغالبيتها من الوزن الخفيف لتأكيد الحضور، والديناميّة، على قاعدة في الحركة بركة، لكن لم ينضح دسم عن تلك الاجتماعات سوى زبد إعلامي يندثر على حبيبات الرمل عند شاطىء النسيان.
إجتمعت “الخماسيّة” حول لبنان، فلا كان عهد، ولا كان وعد، بل سيل طويل هادر بالمقالات والتحليلات حول ما كان، وما سيكون، من دون أن يظهر أي وجه نافر للحقيقة، ليبنى على الشيء مقتضاه.
لم يكن متوقعاً أن يعود الهودج اللبناني من نيويورك محمّلاً بسلال المن والسلوى، وبالأطايب الفاخرة النادرة لأزمة الفراغ، ومشتقاتها، ولكن كان بصيص أن يحمل على الأقل شيئاً من رذاذ الأمل، وطمأنينة ولو خافتة من السراج الكوني المنتصب عند مهبّ الأزمات.
ومع عودة الوفد اللبناني من نيويورك خالي الوفاض، تزداد قشعريرة البرد في الجسم اللبناني العاري، لا هو قادر على رتي قميص الصوف بصنّارة محليّة، وبأيدي قادة البلاد المتحكّمين برقاب العباد، ولا هو قادر أن يغوي الخارج، ويغريه، ليستنجد به، ويستعير منه كسوة لستر عريه.
وما بين داخل موهوم، وخارج مأزوم، يبقى الوطن في عين الإعصار، وهل هو في حسابات الأمم أفضل حالاً، وأكثر إلحاحاً من الوضع في ليبيا، والسودان، وسوريا، ودول أخرى على شفير التمزّق في الشرق الأوسط الجديد؟!