برّي يفتح نافذة على “الخيار الثالث”!

/ جورج علم /

رمى الرئيس نبيه برّي رميته، فأصاب أهدافاً ثلاثة:
• هزّ شباك الملعب السياسي الزغرتاوي بقّوة، وحرّك الأوتار المجتمعيّة الحسّاسة.
• سجّل هدفاً في مرمى بكركي، ردّاً على العظات التي تُحمّل مجلس النواب مسؤوليّة الفراغ الرئاسي، مؤكداً أن العقدة تتمثّل بالخلافات المارونيّة ـ المارونيّة.
• سجّل هدفاً في مرمى معراب بعد الحديث الصحفي لسمير جعجع، والذي جزم فيه بأن لا رئيس من قوى 8 آذار.
كانت رسائل رئيس المجلس محبوكة بعبارات نافرة، وشفار جارحة:
-لم ينس بعد أكثريّة الـ65 صوتا التي اختارته رئيساً للمجلس، وهو الذي كان يفوز بأكثريّة 118 صوتاً، وبشبه إجماع.
-لم ينس مقاطعة دعوته لحوار سعى إليه، لانتخاب رئيس للجمهوريّة.
-لم يغفر لأولئك الذين عطّلوا محاولته عقد جلسة تشريعيّة، تحت شعار “تشريع الضرورة”.
-لم يكن مرتاحاً لإنسحاب كتل وازنة من جلسة اللجان النيابيّة المشتركة الأخيرة، على خلفيّة اعتبارات سياسيّة، ودستوريّة، ما كاد يعرّض مؤسسة المجلس النيابي إلى حال من الانقسام، والعطب.
خرج عن صمته، وجال في فراغ الإستحقاق، وأطلق وابلاً من الرسائل المشفّرة بكل اتجاه، وأوقعت نباله إصابات ثلاث على الأقل:
الأولى: طاولت سليمان فرنجيّة. جرّده من التوافقيّة. إنه مرشّح حركة “أمل” و”حزب الله”. وإذا كان الثنائي الشيعي يعتبر أن ميشال معوّض هو مرشّح تحدّي، فمن باب أولى أن تعتبر القوى المؤيدة له، أن مرشّح “الثنائي” هو مرشح تحدّي أيضاً. وقد ذهب قائد “القوات اللبنانية” إلى أبعد من ذلك، عندما وضع “فيتو” على أي مرشّح رئاسي يتبنّاه “حزب الله”.
الثانية: طاولت قائد الجيش العماد جوزف عون، عندما تحدّث طويلاً، عن الصعوبات التي تعترض طريقه، وأبرزها تعديل الدستور، واستحالة ذلك في ظلّ حكومة مستقيلة مكلّفة بتصريف الأعمال، والأوضاع السياسيّة المأزومة.
إلاّ أنه ترك باب الإحتمالات مفتوحاً، عندما تحدّث عن تجربة الرئيس ميشال سليمان، ومؤتمر “الدوحة”، والتوصّل إلى إتفاق بين المكونات اللبنانية أدت الى انتخابه رئيساً، دون اللجوء إلى تعديل للدستور.
وقد ترك كلامه أصداء واسعة في الأوساط السياسيّة، والدبلوماسيّة حول إمكانيّة تكرار تجربة “الدوحة” لإنتخاب قائد الجيش، لكن هذا يتطلّب “سيناريو” مصبوغاً بالأحمر القاني. وقد أكدت السوابق أنه في كلّ مرّة كان يحصل فيها مؤتمر حول لبنان، كان يسبقه توتر أمنيّ كبير. هذا ما حصل قبل “اتفاق القاهرة”، وقبل “الاتفاق الثلاثي”، وقبل “مؤتمر الطائف”، وقبل “مؤتمر الدوحة ” 2008، حيث كانت تأشيرة الدخول مكتوبة بحبر العروق.
الثالثة: طاولت الـ”ستاتيكو”، والانسداد السياسي، والانهيار المدمّر، والفوضى الداشرة، المنفلتة من كلّ عقال.
تحدّث عن أسابيع متبقيّة، قبل الطوفان الجارف. مرّر رسائل بالغة الدلالة إلى الداخل والخارج حول الخيار الثالث، وضرورة التوافق على إسم من خارج البورصة المتداولة، غير محسوب على أي طرف، وقادر على تدوير الزوايا الحادة، والانفتاح على الجميع.
وكان اللقاء الخماسي في باريس، قد نادى بـ”الخيار الثالث” من دون الدخول في الأسماء، تاركاً للبنانييّن حرية الإختيار، وصياغة القرار. لكن هذه الحجّة لم تكن مقنعة لسببين:
الأول، أن اجتماع باريس كان ناقصاً، لم تكن إيران إلى الطاولة. كانوا مجموعة لها مصالح وتطلعات مشتركة، دون الآخرين الذين لهم تأثير وحضور على الساحة، وعلى مسار الإستحقاق الرئاسي، وهوية الرئيس السياسيّة.
الثاني، أن الاجتماع صُنّف في خانة صراع المحاور. وبعض من شارك فيه، يتقدم محوراً قوامه الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول حلف “الناتو”، بالإضافة إلى اليابان، وأستراليا، ضد المحور الروسي ـ الإيراني ـ الصيني.
إن عدم التوافق بين المجموعات الدوليّة المؤثّرة، وصراع المحاور، وسباق التسلّح، وسياسات الاستقطاب، يجعل الاستحقاق الرئاسي أسير الفراغ في ظلّ غياب التوافقين، الداخلي، والخارجي.
ويدور في الوسط الدبلوماسي حديث عن “ثلاثيّة” رسخت الانطباع حول تفاقم صراع المحاور، وانعكاساته على الأولويات اللبنانيّة:
•إستبعاد إيران عن إجتماع باريس الخماسي حول لبنان.
•إستبعاد إيران وروسيا عن مؤتمر الأمن العالمي وتحدياته، الذي انعقد في ميونخ في 17 شباط الفائت، وشاركت فيه 40 دولة، وتمثّلت الوفود الغربيّة بشخصيات وازنة، من نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، إلى المستشار الإلماني أولاف شولتس. فيما شاركت الصين بوفد برئاسة رئيس هيئة الشؤون الخارجيّة وانغ يي، المقرّب من الرئيس شي جين بينغ. وتحدّث المؤتمر لغة واحدة ضد روسيا وإيران، وكان أشبه باجتماع دول محور، ضد المحور الآخر.
•نجاح روسيا والصين في منع وزراء المال، ومحافظي المصارف المركزية في مجموعة العشرين، في ختام إجتماعهم في الهند، من التوصل إلى بيان ختامي مشترك، بسبب الخلافات بشأن الحرب في أوكرانيا.
لقد رمى الرئيس برّي رميته، وقال كلمته في الوقت الذي ينزلق فيه الاستحقاق الرئاسي، ومعه لبنان، نحو هوّة سحيقة بين فراغين: غياب التوافق الداخلي، والحوار، وعدم الرغبة لدى البعض في النزول عن الشجرة. وغياب التوافق الخارجي في ذروة صراع المحاور، والمصالح، والاستراتيجيات، وهذا ما يطيل من أمد الفراغ، ويدفع الأمور نحو فوضى عارمة، قد تؤدي ـ في حال إستفحالها ـ إلى خلط الكثير من الأوراق، تدفع بالخارج إلى فرض أجنداته على الداخل.
يبقى أن بعض السفراء الذين شاركوا في مؤتمر باريس الخماسي، يسوّقون في جولاتهم على الفعاليات، لـ “الخيار الثالث”… لكن وفق أيّ خريطة طريق؟!