محاكمة “العهد القوي”!

/ خلود شحادة /

يُلملم العهد الرئاسي أيامه الأخيرة، ويجمع الرئيس ميشال عون أغراضه استعداداً لمغادرة قصر بعبدا يوم الأحدفي 30 تشرين الأول، بعد ست سنوات عاصفة.

الجميع يعد العدة لانتهاء العهد، بعضهم يريدها لراحة العماد عون بعد شقاء المواجهة.. وبعضهم لـالراحةمنه.

لكن، هل يمكن محاكمة عهد ميشال عون قبل أيام من انتهائه؟ وهل يمكن إصدار حكمالبراءةأوالإدانةبحق ميشال عون، وعهده، وأحداث 6 سنوات، معظمها حفلت بالصعاب والتحديات والمشكلات، وإن كانت هذه المواصفات تنطبق على معظم العهود  اللبنانية منذ الاستقلال إلى اليوم؟!

ربما بدأ ميشال عون نفسه، منذ اليوم، بمحاكمة ذاتهأين أخطأ وأين أصاب؟ أين تساهل وأين تشدّدمتى كان يمكنه النجاح وما هي أسباب الفشل

قد يكون ميشال عون معني أكثر من أي أحد غيره بالتصالح مع نفسه، ليس لمجرد النقد، وإنما أيضاً لإنصاف نفسه وعهده، والإضاءة على الومضات ـ أياً كان عددها  وحجمها ـ بدل أن يترك لخصومه ساحة التقييم والمحاسبة والمحاكمة، حتى ينصفه التاريخ من دون ظلمذوي القربىالذين انفضّ بعضهم تباعاً، أو يستعدون لـالإنقلابلحظة إدارة ظهره لقصر بعبدا.

يفترض بميشال عون أن يُنصف نفسه أولاً، بـعازل صوتعنالمطبّلينالذين يصوّرون الطريق بين بعبدا والرابية وكأنها مفروشة بالورود، وأن السماء تمطر ماء الزهروإلا فلن يستطيع التاريخ كتابة سطر واحد عنمآثرالعهد، طالما أن التاريخ يكتبه المنتصر دائماً، وحتماً فإن ميشال عون لا يحمل معه من بعبدا أكاليل الغار، وإذا كان يحملها فعلاً فهي ستذبل سريعاً طالما أنها لا تروى بماء بعبدا.

في روايةالتدحرج نحو الهاوية، يختلف السيناريو بين فريق وآخر. التيار الوطني الحر، يرمي ثقل ما يحصل منذ منتصف العام 2019، على كاهل 30 عاماً وعلى اتفاقالطائف، معتبراً أن ما أنتجه الطائف من تسويات وقرارات سلبتالرئيس صلاحياته ودفعت بلبنان نحو قعر الانهيار.

أما الفريق الآخر، فيُرجع الأسباب إلى الحروب الممتدة من العام 1975 (الأهلية والاسرائيلية)، وما خلفته، وكلفة اعادة اعمار البلد.

ولكن كلا الفريقين، يعترف أنالطائفمحطة مفصلية في حياة لبنان السياسية والاقتصادية والمالية، فقد انتج هذا الاتفاق سياسةالتسوياتالتي انسحبت على كل المرافق والقطاعات، بدءاً من التسويات السياسية لولادة حكومة واختيار رئيس للبلاد وقانون الانتخاب، وليس انتهاء بنظام المحاصصة الطائفية الموزعةعلى عينك يا تاجربين الأحزاب، لننتقل منخوّات الحواجزالى تقسيمجبنةالبلاد.

في ذهنيةالتيار، تأخرت فرصة العماد عون للوصول الى القصر الجمهوري ثماني سنوات، بعد أن تعذّر وصوله إلى سدة الرئاسة بسبب انتخاب ميشال سليمان رئيساً عام 2008، في الوقت الذي كان يمتلك فيه عون أكبر كتلة مسيحية.

من غير العادل أن تتم محاكمة عون على الفساد المستشري، وتحميله وزر كل ما يجري خلال عهده، على الرغم أن تياره كان شريكاً فعلياً وحقيقياً في الحكم، خلال ولاية ميشال سليمان.

الا أنه يمكن وضع نقطة أول السطر، والبدء بالمحاكمة منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها عن برنامجه لـالإصلاح والتغيير“.

أو ربما يحاكَم عون بناء على ما أعلن عن نفسه أنهالعهد القوي، وأدخل نفسه في تحدٍ مع المجهول المقبل على لبنان.

قبل ضرب مطرقة الحكم، لا بد من استعراض بعض ما قام به الرئيس عون خلال فترة حكمه.

ـ مسيحياً، عقد عون تفاهماً مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وهذا ما أظهر تماسكاً مسيحياً جارفاً عبر جمع القوى المسيحية على الساحة اللبنانية وتبنيهم انتخاب ميشال عون.

علاقة عون ـ فرنجية سرعان ما انتهت… أماأوعى خيكفسرعان ما تكررت قصة قابيل وهابيل.

هذا الانقسام العامودي في الشارع المسيحي، يرجعه البعض الىغدر القواتأولاً، وسعيهم نحو الشراكة في الحكم، ليكون جعجع هو رئيس الظل، بالإضافة الىفائض القوةالذي عاشه التيار الحر تجاه الأفرقاء المسيحيين الآخرين، عندما تسلم زمام الحكم.

لكن الانقسام لم ينته هنا، بل تسلل الى داخل التيار الوطني الحر نفسه.

ـ سياسياً، وفي علاقته مع الحلفاء، كان التياريتدللعلى حلفائه دائماً، ويتعامل معهم على مبدأ حاجة حليفه إليه على قاعدة أنهاستثناء“.

تعرضت علاقته معحزب اللهإلى نكسات عدة ناتجة عن حساباتالتيارالتي تتعارض مع حسابات الحزب.

كانحزب اللهيراعي دوماً واقع البلد وحيثياته، إلا أنالعهدكان يريد فرض سيطرته حيث تسنح له الفرصة.

وعلى الرغم من مراعاةالحزبالدائمة لكلظروفحليفه، خصوصاً مع مختلف القوى في الشارع المسيحي، الا أن التيار لم يراعِ أبداً الواقع الشيعي، وطبيعة العلاقة التي تجمعحزب اللهمع حركةأمل، رغم علمه بالشراكة التي تربط “الثنائي”.

استخدم العهد مراراً ورقةعدوان تموز، ومواقفه آنذاك، وضغطعاطفياًعلىحزب اللهالذي تعامل معها على أنها بمثابة دين في عنقه، وهو ما دفعه للتمسّك بوصول عون إلى سدة الرئاسة، بالإضافة الى الضغط على الحزب بورقة العقوبات الأميركية على جبران باسيل على أنها ثمن تحالفه معحزب الله“.

كما عاش رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني طلال أرسلان حالة مناللا أمانفي علاقته مع التيار الوطني الحر، حيث كان يتعامل الأخير مع حلفائه على مبدأإما معي وإمّا عدوي“.

على صعيد علاقة عون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، فلا كيمياء تجمع بين حركةأملوالتيار الوطني الحر، وكان دائماً يتعامل معأملعلى مبدأ حليف الحليف، وكسر الجرة مراراً مع الرئيس بري حتى تهشّمت قطعاً صغيرة.

ـ وطنياً، لم يستطع العهد أن يكون لكل اللبنانيين، بل بقي ضمن الإطار المسيحي، وسعى الى تكريس مبدأ المحاصصة الطائفية للوظائف من كل الفئات، بعد أن كانت تنطبق على الفئة الأولى حصراً استناداً إلى الدستور.

لم يحفظ العهد للرئيس سعد الحريري أنه لولاه لما فُتحت له أبواب بعبدا، فدفع الحريري الثمن 5 مرات: مرة بالتسوية الرئاسية لوصول عون إلى بعبدا، ومرة بالمحاسبة السعودية له على دخوله في التسوية، ومرة بمخاصمة حلفائه الآخرين له على دخوله في هذه التسوية، ومرة داخل بيئته التي لم “تهضم” وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، ومرة داخل تياره الذي غادره “المتشدّدون” بسبب التسوية الرئاسية.

لم يتمكن العهد من الانفتاح على باقي الأفرقاء السياسيين، فلم يخرج عون من حالة رئاسة التيار الى واقع رئاسة البلد.

لم ينجح العهد في كسب خصومه، وكذلك فشل في الحفاظ على حلفائه، بسبب عدم قدرته على التعاون مع شركائه في الوطن، حتى أصبحت الطريق نحو بعبدا لا يسلكها إلا أصحاب الحظوة، أو المسلّمين بالقضاء والقدر. وهو يعلم، أن ما أنتجهالطائفمن أركان سياسية أساسية لا يمكن تجاهله والقفز فوقه.

يؤخذ على العهد، أنه كان يتعامل كل يوم مع كل الأطراف في البلاد بذهنية الانتخابات، ومحاولاته الشعبوية لكسب الشارع المسيحي أدت الى ارتفاع نبرة الخطابات الهجومية والخطابات المضادة، مما قطع جسور التواصل والتفاهم مع الأطراف السياسية.

هل تعني هذه الجردة أن صفحات العهد سوداء؟

اختزال عهد ميشال عون بهذا الشكل، فإن في ذلك ظلم كبير. فلا يحمل ميشال عون، وحده، مسؤولية هذا الانهيار الذي أصاب البلد في عهده. هو تصدّع متراكم، لكن لحظة الانهيار كانت في زمن ميشال عون، وقد أضافت عبئاً ثقيلاً على البلد.

لا ينكر أحد أن ميشال عون كان الرئيس الأكثر عناداً وصلابة في الموقف السياسي، خصوصاً في المحطات المفصلية التي عبرت عهده. وعلى الرغم من الخلاف الكبير بين عون والرئيس سعد الحريري إلا أن الحريري حفظ للرئيس عون وقوفه إلى جانبه زمنالاستقالة الملتبسةمن السعودية.

بالإضافة إلى مواقف أخرى تتعلّق بالسلم الأهلي وحماية الحدود وملف النازحين السوريين، وملف الثروة النفطية والغاز وترسيم الحدود البحرية، وقبلهم ودائماً الموقف الذي شكّل تحوّلاً في وجدان مؤيديه من العداء لإسرائيل.

كما أن عون تمسّك بحسن العلاقة مع العمق العربي، ومن ضمنه العلاقة الوثيقة مع سوريا، من دون أن يبتعد عن زمنغربتهفي فرنسا، ولا يقفل الباب على العلاقة مع أميركا بينما يفتح قنوات التواصل الدائم مع روسيا.

أما في الملفات الداخلية، فقد تبنى عون، التدقيق الجنائي، بالإضافة الى تعاون وزراء التيار في حكومة حسان دياب لإقرار الإجراءات الإصلاحية التي تم العمل عليها آنذاك.

ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية، أعلن العهد حربه على حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، واتهمه بالتلاعب بسعرالصرف ومصير اللبنانيين وسلب ودائع الناس، رغم أن التيار نفسه كان قد جدد لسلامة على اعتبار انه الشخص المناسب للمكان المناسب بعد عامين من انطلاقة العهد، ومارس الصمت المطبق عندما قاد الرئيس السابق حسان ديابمغامرة” إقالة رياض سلامة باعتباره مسؤولاً مباشراً عن الانهيار في البلد.

بالتأكيد، دخل عهد ميشال عون في التاريخ كمحطة لا يمكن القفز فوقها. ستكون هناك دائماً تعابير “قبل عهد عون” و”خلال عهد عون” و”بعد عهد عون”.. وسيكون هناك انقسام في تقييم العهد والحكم عليه. تماماً كما كان الانقسام في الرأي من عهود سابقة…

المسافة بين بعبدا والرابية ليست كبيرة، وهي ليست كافية لا لاحتساب “النكسات” ولا “الخيبات” ولا “الانتصارات”… لكنها ستكون كافية لغمضة عين على ما يمكن أن يكون جدول أعمال اليوم الأول كـ”رئيس سابق”…