/ جورج علم /
غاب ميخائيل بوغدانوف عن شاشة الردار اللبناني. ولم يعد يُسمع الكثير عن حراك أمل أبو زيد، وجورج شعبان باتجاه موسكو. والسفيران الروسي، والأوكراني في سباق محموم حول الفنجان اللبناني، كلّ يقرأه من زاويته، وكلّ يعلن بأن لبنان الى جانب دولته في الحرب الأوكرانيّة. أما سياسة لبنان الخارجيّة، فعنوانها واضح في هذه المرحلة: “مع السوق، سوق”، و”الشغل على القطعة أفضل من الالتزام الأعمى”!
وليد جنبلاط أدرى المتبصّرين بالمتغيرات. مقرّب من الكرملين. والسفير اللبناني في موسكو شوقي بو نصّار لا يبخل عليه بالمعلومة المقتلعة من مصادرها الموثوقة، ولا يحجب عنه توقعات الريح، ومسار تقلّباتها. يعرف تماماً بأن حرب أوكرانيا بدّلت الأولويات. العالم ما بعدها، لم يعد كما كان قبلها. أطلق الرئيس فلاديمير بوتين حروباً ثلاث، دفعة واحدة: حرب الطاقة، وحرب الغذاء، أدهى من تلك التي شنّها ضد حلف “الناتو”، و”بهلوانياته” في أوكرانيا.
الدبلوماسيّة الروسيّة منهمكة بتفخيخ جدار العقوبات الدوليّة تمهيداً لانهياره. ليس وحده جدار برلين قابل للإنهيار، جدار العقوبات أيضاً، والأمر يتطلب رويّة، وحكمة، وحنكة، وطول بال. عامل الوقت مهم، وسيفه يفعل فعله بقوّة التصميم، والإدراك. لم يعد سيرغي لافرورف واقفاً عند خطّ المواجهة مع “الناتو” في أوكرانيا، إنه في حضن جامعة الدول العربيّة في القاهرة، وفي أفريقيا، والصين، والهند، إنه في انقرة، وفي طهران، وفي أي مكان تقتضيه عمليّة شدّ الأحزمة… حرب الطاقة، هي أم الحروب المدمّرة لاقتصاديات العالم. وحرب الرغيف، هي أم الحروب الفتاكة بالكائن البشريّ، والبقيّة تفاصيل…
ليس من باب الترف السياسي أن تدعو حكومة صاحبة الجلالة، البريطانييّن إلى الاستعداد لشتاء قارس، قد ينقطع التيار الكهربائي عن المنازل لأيام عدّة في الأسبوع، توفيراً للطاقة.
ليس من باب الدعاية، ولا الدعابة، الحديث عن انطلاق بواخر القمح من موانىء أوكرانيا حاملة الأمل إلى البطون الخاوية بإمكانية الحصول على رغيف. خبر بواخر القمح كان في الماضي القريب من “المنسيات”، من باب “تحصيل الحاصل”، أصبح اليوم من “الأولويات” يتصدر عناوين الصحف، ونشرات الأخبار.
يستلقي زعيم المختارة على الكرسي الهزّاز، يغبّ جرعة من “المتّة”، “يسوح” بين عناوين الصحف، وتحليلات المجلاّت العالمية. زيارة الرئيس جو بايدن الأخيرة إلى المنطقة لم تساوِ ثمن الحبر الذي انسكب على ورق التحليلات، والتغطيات، كانت دعائيّة. لم ترمم جدار الثقة المتداعي بالكامل. كانت أشبه بقنبلة صوتيّة حاول أن يستفيد منها الحزب الديمقراطي في الداخل قبيل الإنتخابات النصفيّة للكونغرس.
رئيس أميركي يأتي متوسّلاً، ويعد، ولكن وعوده لم تزبد، والدليل أن كبريات الصحف في نيويورك، بدأت تتحدث عن “نصف ولاية”، وعن “ولاية غير مكتملة”، لا بسبب جائحة “كورونا”، وصحّة الرئيس التي دهمتها الشيخوخة، بل بسبب النفوذ الكبير الذي يمارسه “اللوبي الإسرائيلي”، على هذه المؤسسات الإعلاميّة، للتأكيد على ما يعانيه من “عسر هضم” للوجبات التي تقدمها الإدارة الأميركيّة لإسرائيل، ورفضه السياسة المتبعة في الشرق الأوسط، حيث يتعاظم ضجيج المفاعلات المصنّعة للقنبلة الذريّة، على كلّ ضجيج آخر.
وليس لبنان نسيّاً منسيّاً في الحروب المعلنة. غازه لا عند هوكشتاين، ولا في تل أبيب، بل عند الروس أيضاً، وعند إيران بالتأكيد. لا يعشق الرئيس الروسي قطع آلاف الأميال في سبيل اللاشيء. لم تحلّق طائرته من موسكو باتجاه طهران للتمتع بالمناظر من كوّة مقعده، بل جاء ليحصّن الجبهات المتقدمة. روسيا أكبر احتياط غازي في العالم. إيران أيضاً. الخليج لم يمدّ بساطه أمام الرئيس الأميركي الضيف، “نحن مقيّدون بأحكام منظمة أوبيك +، لا زيادة، ولا نقصاناً”. لم يمنح الخليجيّون الرئيس بايدن ما يريد. لم يبصموا له على بياض، تركوا الأبواب على الصين، وروسيا، وحتى إيران مفتوحة، وهذا ما شجّع الرئيس بوتين على أن يتصل بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويتحدثان مطوّلاً حول مستقبل العلاقات، ومستقبل الطاقة، بعد يوم واحد فقط من انتهاء جولة بايدن في المنطقة.
قد يكون ميخائيل بوغدانوف “طوّل الغربة علينا” لانشغاله بملفات أكثر أهميّة، لكن هذا لا يعني أن موسكو غير مباليّة بغاز ونفط لبنان. المعركة ـ من زاويتها ـ ليست “معركة رئيس”، بل معركة نفط وغاز، ومن يملك مفاتيح غاز ونفط لبنان يملك مفاتيح الإستحقاق الرئاسي. بحر طرطوس، حيث يتهادى الأسطول الروسي في خليجه، ليس بعيداً عن بحر الناقورة، وجونيّة، والعبدة. ويبقى “كل شيء بحسابه، والعدس بترابه”، الى أن يحين موسم الحصاد، والفرز!
سارعت السفيرة الأميركيّة إلى كليمنصو لتقف على مزاج البيك. الكلام عن استدارة باتجاه الضاحية الجنوبيّة يقلقها، ويزعجها، لكن الضحك الأميركي على ذقون اللبنانييّن أكثر إيلاماً، وإزعاجاً. أين الغاز المصري، والتيار الأردني؟ أين أصبحت هذه الكذبة، وتلافيفها؟! عندما خاطب وزير الطاقة محدّثه الأميركي هوكشتاين بأنه على استعداد لتقبل المازوت الإيراني، إستشاطت السفيرة الأميركيّة غضباً، وسألته بانفعال كيف يسمح لنفسه بذلك، وهو المحسوب من ضمن “مجموعة السفارة” ويحمل الجنسيّة الأميركيّة؟! كان ردّه “شعبي يرفض العتمة، ومن واجبي أن أقبل الهبّة أيّاً كان مصدرها”.
عندما يرى زعيم المختارة أن الاتحاد الأوروبي يتوسّل طهران للعودة إلى الاتفاق النووي، مقابل حصوله على غازها كبديل عن الغاز الروسي. وعندما يرى أن زيارة الرئيس بايدن إلى المنطقة لم تستطع إعادة عقارب الساعة الخليجيّة إلى الوراء. وعندما يتوسم جديّة في خطاب السيّد حسن نصرالله حول غاز لبنان، ونفطه، في بحر الناقورة، يصبح من المنطقي أن يكمل استدارته ناحية الضاحيّة… حتى ولو تسبب ذلك بشرخ في العلاقة مع سمير جعجع!