/ جورج علم /
يحظى لبنان باهتمام خارجي، إقليمي ودولي، كونه:
- صاحب ثروة غازيّة، ونفطيّة، في بحره، وبرّه.
- صاحب نخوة في استضافة مخيمات تنتظر حلاّ عادلاً للقضيّة الفلسطينيّة.
- صاحب مروءة في استيعاب النزوح السوري.
- صاحب ميزة باستقباله قوات دوليّة على أرضه، ومنذ سنوات.
وطرأ عنصر جديد يفعّل هذا الاهتمام، هو سلاح المقاومة، والدور الذي يلعبه “حزب الله”، انطلاقا من لبنان.
والأهم من كلّ ما تقدّم، هو الحرص على الاستقرار، أو بكلام أدق، على “الستاتيكو” القائم، لأن أي اختلال كبير، أو أي عنف أمني غير ممسوك، من شأنه أن ينعكس سلباً على الأوضاع، ويستولد رياحاً عاتية لا تشتهيها أشرعة السفن الدوليّة في هذه المرحلة الدقيقة، والحبلى بالمتغيرات.
ما يريده المجتمع الدولي، أن يبقى الأمن ممسوكاً، أن تستمر حالة “الستاتيكو”، كي تبقى سياساته، ومشاريعه، ومخططاته تجاه الغاز، والبلوكات البحريّة، وتجاه مستقبل اللجوء الفلسطيني، والنزوح السوري، قائمة، محصّنة ضدّ أي طارىء قد يودي بها، أو يقلّل من فرص نجاحها.
وانطلاقا من المقادير “المشقوعة” عند البيدر اللبناني، يمكن القول بأن الغلّة المتوافرة شحيحة، وقد تكون نتيجة حسابات غير متطابقة المواصفات، نظراً للاضطراب الكبير الذي خلّفته الحرب الأوكرانيّة في الأسواق العالميّة. فالمجتمع الدولي مضطرب، متوتر، قلق من حاضره، وعلى مستقبله، يحاول الإمساك برغيفه، وتوفير قوت يومه، وتأمين سلّة غذائه، وضمان حاجاته من القمح، والغاز، والطاقة، قبل مواسم الرياح والزمهرير.
أما الضمانات الإقليميّة والدولية المتوافرة، فهي كناية عن بيانات تصدر عقب اجتماعات، أو مؤتمرات، وتبقى ناشفة، خالية من أي حيويّة نابضة بالأمل، وذلك لسببين جوهرييّن:
الأول، أن العالم بكبير دوله، وصغيرها، قد فوجئ بتداعيات الحرب الأوكرانيّة. لم يتوقعها. والذي كان يتوقعها لم يحتسب تداعياتها، ومن احتسب تداعياتها لم يكن يتوقع أن يكون الرغيف هو الرقم الصعب، والغاز، والبنزين، هو المستحيل الذي يفترض ترويضه لكي يصبح ممكناً.
خرج العالم منهكاً من جائحة “كورونا”، يعاني الأمرّين، وقبل أن يلتقط أنفاسه، دهمته “جائحة” أوكرانيا، فإذا هو أمام حسابات جديدة، مكلفة، وطافحة بالمفاجآت غير السارة، وبالتوقعات المحشوّة بالتشاؤم، ونفاد القدرة على حسن التدبير.
الثاني، أن العالم أمام خريطة سياسيّة “مدروزة” بحقول الألغام، مفخخة بالمتغيرات الصادمة. هناك محاور جديدة، وتحالفات ناشطة، وتكتلات مستقطبة. هناك عالم متغيّر تفرضه حسابات المصالح، ومكامن الثروات، والطاقات.
أخطر ما خلّفته الحرب الأوكرانيّة أنها أنهت “السورياليّة السياسيّة” في العالم، وقضت عليها، خصوصاً لدى الدول الضعيفة، أو الشعوب المستضعفة، علماً أن هناك من لا يزال يعتقد، وربما يراهن، على أن لبنان حاجة دوليّة لا بديل عنه، أو جرماً مميّزاً ملحقاً حكماً بالمجرّة الغربيّة، لا يمكن التفريط به، أو الاستغناء عنه، وبالتالي لا يزال ينتظر “الرافعة”، التي قد تأتي مع فجر يوم جديد، مختلف، لتنتشله قبل الانشطار الكبير.
هناك رهان لا يزال قائما على هذا الوهم، ولدى مختلف الطوائف والمذاهب، والجماعات السياسيّة، بأحزابها وتكتلاتها. والدليل أننا عقدنا، من خلال إعلامنا ومواقف بعض مسؤولينا، “مؤتمراً دوليّاً خاصّاً بلبنان”، قبل أن يتفوّه أحد من الأشقاء، والأصدقاء النافذين بكلمة واحدة بشأنه. رسمنا خطوط طوله، وعرضه، ومواصفاته، وأجندته السياسيّة، وما سيصدر عنه من مقررات، قبل أن يشير أحد من القادرين إليه، ولو بإشارة واحدة. ونحاول الآن تحديد مكانه وزمانه استناداً الى أجندتنا الداخليّة، وفي طليعتها العمل على الفراغ الرئاسي.
هذا الوهم نحاول أن نترجمه إلى واقع من خلال الدفع بالبلد نحو الارتطام الكبير، لحمل الخارج على المسارعة للتدخل… لكن إذا ما تدخل، فحرصاً منه على مصالحه، وسياساته المرسومة تجاه ملفات محليّة وإقليميّة يتحمل وزرها لبنان، لا مصلحة له بتشظّيها، أو العبث بها.
وعندما أعلن الرئيس نجيب ميقاتي، ومن السرايا الحكومي، أن لبنان سيبادر إلى تطبيق قوانينه المرعيّة الإجراء لحمل النازحين على العودة الى وطنهم، ضجّت عواصم الدول المعنيّة، مطالبة بالتروّي، وتفعيل قنوات الحوار. وعندما رُفع شعار “غاز للبنان، أو لا غاز لأحد”، نشطت حركة الاتصالات، وعادت الحرارة الى القنوات الدبلوماسيّة، بحثاً عن مخارج، وتسويات ممكنة. وعندما أثير موضوع التطبيع مؤخراً، ومن زاوية نقل أموال وأدوية عبر معبر الناقورة، ضجّت عواصم الدول الكبرى، وتصدّر الخبر نشرات الأخبار، مع فائض من الأسئلة المغرضة لصبّ الملح على الجرح، للذهاب نحو الأدهى.
قطعاً، لم يغب الاهتمام الدولي، لكنه اهتمام يصبّ في صلب مصالحه، ربما على حساب لبنان واللبنانيين، إن في ما يتعلق بالتوطين، أو الدمج، أو الاستثمار بالثروة الغازيّة والنفطيّة… لكن الاهتمام الذي يريده اللبناني، الحريص على وحدة الأرض والشعب، وسلامة الكيان، وسيادته، ودوره الحضاري، قد لا يأتي، أو قد يأتي بعد “خراب البصرة”، وعندها، إن أتى، قد لا يكون مفصّلاً وفق المواصفات المطلوبة وطنيّاً، بل وفق مطامح ومطامع المبادرين المتهافتين على الاستثمار في الضعف اللبناني.
إن المعاول الكثيرة المرفوعة في الهواء، ولدى غالبيّة الأطراف، إنما تعمل على هدم ما تبقى من بنيان الكيان، وقبل أن يتوافر البديل، ويتم التوافق حوله، والإقرار بخريطة طريقه. والمؤسف أن التقرير الدولي الذي نشره موقع “الجريدة”، يتحدث عن “التفتيت”، كما يتحدث عن إمكانات النهوض إذا ما جمع اللبنانيون شملهم، وتحاوروا، وتفاهموا على إقرار الإصلاحات المطلوبة لوضع القطار على سكّة الإنقاذ. لكن لم يتحدث، ولا في أيّ مقطع منه، عن مؤتمر دولي “خاص بلبنان”. ولم يشر بكلمة واحدة اليه. وأدهى الاحتمالات أن يُعقد، لكن على أشلاء الوطن!