/ جورج علم /
أنهى الفرنسي بيار دوكان جولة استطلاعيّة، استمرّت أياماً عدّة، قبل أن يغادر ليرفع تقريراً إلى إدارته حول ما رأى، وما سمع.
وأنهى وفد “الصداقة الأميركيّة ـ اللبنانيّة” جولة واسعة على المسؤولين والفعاليات، وغادر ليزوّد الإدارة الأميركيّة حول ما رأى، وما سمع.
وغادر بعض السفراء في إجازة، وطُلب من البعض منهم البقاء استثنائيا في بيروت خلال عطلة الصيف، لمتابعة التطورات، على ضوء ملفين قيد “الإنضاج”: ترسيم الحدود البحريّة، والعودة الى الاتفاق النووي الإيراني.
وتستعدّ الأمانة العامة للأمم المتحدة لتهيئة ظروف طبيعيّة للتمديد لمهام “اليونيفيل” في الجنوب سنة إضافيّة، من دون “زوائد، ومعوقات، ومنغّصات”، تفسد الاستحقاق.
يحدث كلّ ذلك، بانتظار جلاء الصورة حول المتغيرات التي قد يشهدها الشرق الأوسط في ضوء الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن إلى كلّ من تل أبيب وبيت لحم وجدّة، وأيضاً نتائج القمّة الروسيّة ـ التركيّة ـ الإيرانيّة التي استضافتها طهران مؤخراً.
ويسري الانتظار على الساحة الداخليّة رغم زحمة الاستحقاقات، وحماوة المواضيع الخلافيّة، وتفاقم الأزمة الماليّة ـ الاقتصاديّة ـ المعيشيّة، ذلك أن المؤشرات لا توحي بوجود دافع جدّي يحثّ الأطراف على التوصّل إلى تفاهم حول “رئيس صنع في لبنان” ليصار الى انتخابه مع بدء المهلة الدستوريّة، وكأن الأهليّة منقوصة، والقدرة غير متوافرة، ويستعاض عن هذا العجز باللجوء إلى الخطاب التحريضي لملء الفراغ الكبير، وتبليغ من “يهمّهم الأمر” بأن اللبنانيين غير قادرين على لبننة الاستحقاق بعدما تحوّل الوطن إلى ساحة مباحة لصراع المحاور.
ويبقى الرهان على شهر آب، حيث يعود الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين لصياغة تفاهم الترسيم بأحرفه النهائيّة، قبل شهر أيلول، عندما تبدأ إسرائيل باستخراج الغاز من حقل “كاريش”، وهي مرغمة على ذلك وفق بنود الاتفاقيات المبرمة، سواء مع شركة “إنرجين”، أو مع الدول الشريكة في مشروع “غاز شرق المتوسط”، وفي الطليعة مصر وقبرص واليونان.
ويفترض، خلال شهر آب، أن يتم التوصل إلى قواسم مشتركة تحفّز كلّ من الولايات المتحدة، وإيران على إحياء الاتفاق النووي، وفق صيغة منقّحة، مغايرة لتلك التي أبرمت في الـ2015، وتأخذ بعين الاعتبار الكثير من المستجدات التي طرأت، سواء في المنطقة، أو لدى الدول المعنيّة بالاتفاق.
ويتوقع خلال شهر آب أن تشهد الساحة حماوة في الاتصالات والمشاورات بين رؤساء الأحزاب، والكتل البرلمانيّة، حول الانتخابات الرئاسيّة، لجهة تظهير أسماء المرشحين الجدييّن، والمواصفات المطلوبة من جانب كل طرف، وإمكانية الوصول الى جلسة انتخاب منتصف أيلول، كبديل عن هدر الفرص، والاستمرار في لعبة “عضّ الأصابع”، والوصول إلى الفراغ الكبير.
وقد يتبادر، للوهلة الأولى، بأن الطريق نحو الاستحقاق سالكة وآمنة، فيما تشير الوقائع إلى مطبّات بالغة التعقيد، وزيارة بيار دوكان إلى بيروت مرتبطة بـ”إخراج كبير” يسعى إليه الرئيس إيمانويل ماكرون مع عواصم الدول النافذة للإبقاء على وحدة الكيان اللبناني، وحمايته من التفتيت والشرذمة، وصياغة عقد جديد يعيد للبنان حيويته الثقافيّة والاقتصاديّة.
التخوّف من أن الترسيم ليس مجرّد عمليّة هندسيّة، تنتهي بتحديد المساحة، والتفاهم على خطوط الطول والعرض، بل هو مسار اقتصادي حيوي لا يقتصر على حقل “كاريش” بل على الدول المعنية والمهتمة بمصادر الطاقة نتيجة الأزمة الحادة التي خلفتها الحرب الأوكرانيّة، ودخول الغاز الروسي كسلاح حيوي في المعركة. ومعادلة “غاز للجميع، أو لا غاز لأحد”، لا تنتهي بالتفاهم على خطّ، أو مساحة، بل على آليات العمل، وطبيعة الاستخراج، ومن هي الجهات الدوليّة المستفيدة، ومن هي الشركات التي ستتولى عمليات الحفر، والاستخراج، وإن كانت الأميركيّة والأوروبيّة منها الأكثر استعداداً وجاهزيّة لذلك.
والتخوف من أي تداعيات قد تلقي بثقلها على الكيان اللبناني، سواء تمّ التوصل الى اتفاق نووي، أم لم يتم، ذلك أن الساحة متاحة أمام المحاور الناشطة، وتتأثر سلباً أو إيجاباً طبقا للمتغيرات.
والتعويل على الدور الفرنسي نابع من المحادثات التي أجراها الرئيس ماكرون مع رئيس دولة الإمارات العربيّة المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حيث كان الوضع اللبناني في صلب المحادثات والتفاهمات، كما هو “طبق دسم” خلال زيارة الدولة التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى باريس.
وكان تعويل على زيارة يقوم بها مساعد وزير الخارجيّة الأميركي الى بيروت في ختام جولة الرئيس جو بايدن إلى المنطقة. لكن، وفق التقارير الواردة، فإن وفد “الصداقة الأميركيّة ـ اللبنانيّة” قام بمهمّة إبلاغ الرسائل الى المعنييّن، وهي ليست من النوع البروتوكولي بقدر ما هي من النوع الذي يحمل طابع “الامتثال” إلى الخيارات والإملاءات، وهذا ما يعكّر صفاء جهات فاعلة في الداخل، ويدفع بها إلى قراءة الكتاب اللبناني من منطلق أن استحقاق الترسيم، واستحقاق الاتفاق النووي، يحددان مواصفات الاستحقاق الرئاسي. وإن تداعيات قمتي جدّة وطهران بدأت تنعكس على دول المنطقة بما فيها لبنان، وأولى المؤشرات أن اللبنانييّن ـ حتى الآن – ينتخبون الفراغ، والفراغ ينتج الفوضى، والفوضى تنتج مؤتمراً دوليّاً خاصا بلبنان، والمؤتمر ينتج تسوية، والتسوية تنتج رئيساً.