/ جورج علم /
“ما بيقدر مطران ياخد بلد عالتطبيع، كما لا يمكن التطبيع مع بلد فيه أكثر من مطران”.
وتبقى علامة الاستفهام: لماذا الآن، وفي هذا التوقيت؟ ذلك أن مسألة المطران موسى الحاج، ليست بنت ساعتها، إذ سبق أن أثيرت قضيّة نقل الأدوية، والأموال، والمساعدات الإنسانيّة بهدوء، وعلى أرفع المستويات، وترك لبكركي يومها خيار المعالجة بعيداً عن التشهير، وقطعاً لدابر الاستغلال، بمعنى ألاّ يصبح الممر الحدودي حكراً على رجال الدين، أو أصحاب النفوذ من مختلف الطوائف، والمذاهب.
وانطلق رفض بكركي، يومها، من مبدأين:
- عدم التدخل الذي يفرضه منطق القوّة لتغيير معالم الصخرة التي بنى عليها المسيح بيعته. هناك أرث ديني، أخلاقي، وطني. وهناك تاريخ، وجغرافيا، وهرميّة كنسيّة نشأت مع نشوء الطائفة، ونشوء الكيان، وفرضت وجود أبرشيّة للموارنة على امتداد فلسطين والأردن، وتجاوزت مدارك المتغيرات السياسيّة، والمحطات التاريخيّة.
- عدم ربط الرسالة الإنسانيّة، بالنزوات والأغراض السياسيّة. هناك فصل تام، وعلى قاعدة: “أعط ما ليقصر لقيصر، وما لله لله”.
- … وإذا كان من إضافة، فإن هذه الأبرشيّة قد توالى على خدمتها مطارنة عظماء، كان أبرزهم الياس الحويك الذي أصبح بطريركاً مؤسسا “لدولة لبنان الكبير”.
ويبقى الجديد حكراً على سؤال محوري، لماذا الآن؟ لماذا الافتعال في هذا التوقيت؟ علما بأن المطران الحاج، هو في تنقل دائم، بحكم مسؤولياته ما بين لبنان وفلسطين المحتلة؟
ويأتي الجواب:
يتزامن خبر التوقيف، والاستجواب، مع حديث شائع، متعدد الأطراف، يفيد عن تقدّم في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود، وعن تجاوب إسرائيلي مع ما يسوّق له الوسيط الأميركي، وعن مسوّدة مشروع اتفاق تدرس، وتنقّح حاليّاً على أرفع المستويات ليصار الى التوقيع في غضون اسابيع.
كلّ هذا، معروف، ومتداول في وسائل الإعلام، إلاّ أن الجديد الذي سيّر المسيّرات الثلاث فوق حقل “كاريش” يتصل بتسريب عن ملحق سرّي يفيد بأن التطبيع المائي يفترض أن يتمدد ويتطوّر الى تطبيع برّي، وتطبيع الغاز في الناقورة يفترض أن يترافق مع تطبيق مصالح اقتصاديّة، وحتى تتحقق المصالح الاقتصاديّة، وتبلغ الذروة من الفائدة والمردود، لا بدّ من وضوح في المسار، وهذا الوضوح المطلوب هو الذي يشكل نقطة خلاف، ومصدر تباينات في وجهات النظر المحليّة.
- الإسرائيلي، يريد غاز المنطقة المتنازع عليها جزءاً أساسيّاً مفصليّاً من مشروع “غاز شرق المتوسط”، على أن يكون لبنان، كما مصر، كما الأردن، شريكاً في الأنبوب الذي يفترض أن ينطلق من شاطئ فلسطين المحتلة عبر البحر، وصولاً إلى إيطاليا لإمداد أوروبا بالغاز.
- الأممي، يحاول أن يركب الموجة، ليعطي القرار 1701 دفعاً جديداً يؤدي إلى تطبيع العلاقات على طول “الخط الأزرق” بما يسمح له، في ما بعد، بسحب “القبعات الزرق” تدريجيّاً من الجنوب.
- الأميركي يرى أن الفرصة مؤاتية كي يصبح التفاهم على ترسيم الحدود المائيّة “خطوة في مسافة الألف ميل” بالإتجاه الذي يقود لبنان لأن يصبح شريكاً في “الصندوق الإبراهيمي”، كما غيره من الدول العربيّة الأخرى.
- اللبناني، يريد ما لا يستطيع عليه، بسبب تعدد الرؤوس، والمرجعيات، والولاءات، والخيارات. ينكر أن يكون هناك “مشروع تطبيع”، أو “اتفاق سرّي” متلازم مع الاتفاق الذي يصار الى إنضاجه حول الترسيم. لكن في الوقت عينه يقول بأن “عجينه” عند “الخبّاز” الأميركي، ولا علاقة له بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بل عبر الوسيط، ويقول بعض أهله بأن هذا الوسيط هو إسرائيليّ الهوى، أو منحاز، فيما يصفه البعض الآخر بـ”الواقعي”، ويقول بأن “على الواقعيّة أن تنتصر في النهاية للخروج من نفق المزايدات التي أوصلت البلد الى الارتطام الكبير”!
وأثبتت الوقائع والمستجدات الأخيرة بأن المسيّرات الثلاث، كانت تستهدف “المستتر” من محاولات الترسيم، وقد نجح “المسيّرون” بالدخول إلى صلب المعادلة من خلال المواقف الصريحة التي أعلنها الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله في إطلالاته المتلفزة في ما بعد، والتي وجهت رسائل معبّرة في أكثر من اتجاه، بما في ذلك الى الداخل اللبناني.
وتتموضع قضيّة المطران الحاج في هذا المربع الداخلي، بزواياه الأربع الحادة:
- السلاح الذي تريده بكركي تحت سقف الشرعية، و”لا سلاح خارج الشرعيّة”.
- رئاسة الجمهورية، حيث لبكركي توصيف واضح، “لا لرئيس منحاز لخدمة مشروع السلاح اللاشرعي”.
- تغيير الهويّة، وموقف بكركي صريح من خلال عظات البطريرك التي ترفض تغيير الخصائص اللبنانية الحضاريّة.
- رسالة لبنان، ودوره في المحيط، وإصرار بكركي على الإنخراط في المشروع العربي وفقاً لدستورالطائف.
انطلاقا من هذه الزوايا الحادة، تمّ استجواب المطران الحاج تحت عنوان “التطبيع”. التهمّة فجّرت بركان الغضب، الغضب فجرّ بيان بكركي، والبيان حظي باهتمام عربي، وغربي كبير لجهة مضمونه، والرسائل التي انطوى عليها كثيرة، وبالغة الدلالة، وأبرزها أن المشكلة الأساس ليست ترسيم خريطة الحدود المائيّة، بل ترسيم خريطة وطن تتنازعه محاور متهافتة على ترسيم حدود مصالحها على حساب جغرافيته، ودوره، وحضوره في الشرق الأوسط.
ويوماً بعد يوم تقلّب رياح التطورات المتسارعة، أوراق الأزمة المستترة: لم تعد أزمة انتخاب رئيس للبنان، بل رئيس لأي لبنان؟!