الدّاية والولادة في المنازل.. إلى الواجهة من جديد!

/ محمّد حسين عيسى /

تدخلُ الدّاية غرفة النّوم مهرولة، حيث ترقد امرأة في سريرها وتصرخ بملء صوتها، تقف الدّاية جانب باب الغرفة وتنده بأعلى صوتها، تناشد الحضور كي يأتوا بِطشتٍ من الماء الدّافئ، الأب ينتظر خارج الغرفة وقد سيطر عليه الخوف والتّوتّر، يعدّ الدّقائق البخيلة في رسم النّهاية ليرى مولوده بفارغ العطف.

دقائق معدودات ويعلو صريخ ضيفٍ جديد صغير الحجم، ضعيف القوام انضمّ إلى عالم المادّة. غريبٌ أمر هذا الكون، فالبشرى السّارّة تبدأ بالصّراخ والبكاء لعلّ ذلك بسبب معرفة الرضّيع بمرارة الحياة.

تخرُج الدّاية لتبشّر الوالد بقدوم مولوده الجميل الّذي يشبهه تمامًا وغالبًا يكون المولود ذكرًا يشبه الأب في مجتمع يميل للذّكوريّة منذ نشأته، عندها يُخرِجُ مبلغًا من المال أو قطعةً من الذّهب ويقدّمها للدّاية كعربون ردّ جميل لإخبارها إيّاه بالبشارة السّارّة، ثمّ يردّد الحمد لله، الحمد لله…

من منّا لم يشاهد هذا المشهد المتكرر في الدّراما المصريّة القديمة أو المسلسلات الشّاميّة الّتي تحاكي حقبة معيّنة من الزّمن. يظنّ البعض أنّ أيّام الدّاية غبّرت خصوصًا في لبنان، وهذا الظّنّ كان لا بدَّ أن يكون صحيحًا لولا تراكم الأزمات وغلاء الولادة في المستشفيات وعجز مستشفيات الدّولة والضّمان عن تغطية نفقات الولادة.

فَهل عاد زمن الدّاية في لبنان!

في حديث مع رضوان، المتزوّج منذ ثلاث سنوات، يروي لنا قصّته مع حمل زوجته.
حيث يقول إنّه تزوّج قبل ثورة تشرين بشهر واحد فقط، وعندما اندلعت الثّورة وبدأت الأزمة السّياسيّة تتدحرج، وازداد الضّغط الاقتصاديّ الخانق، قرّر بموافقة زوجته تأجيل الإنجاب بسبب عمله في ورشة موبيليا حيث كان العمل، كما قال، سيّئًا بل إلى أسوأ.

ثمّ أردف، في النّهاية قرّرنا أن ننجب بعد عامين، فالمجتمع لا يرحم إذ يتساءل الجميع حول سبب التّأخير، وبعيدًا عن تطفّل البشر، يقول: أنا وزوجتي شعرنا بالحاجة للإنجاب لكسر العاطفة الّتي آلت للتّغلّب على الأسباب المنطقيّة والماديّة الّتي جعلتنا نؤجّل، فالمعلوم أنَّ قطار الحياة يمرّ سريعًا وبشكلٍ خاطف.

ماذا عن أسعار الولادة؟

هنا تحدّث بسخط وغضب كبير، “الأسعار نار نار والدّولة لم تلتفت إلى هذا الأمر لَربّما تريدنا أن ننقرض”.
ثم قال: الطبيبة الّتي تعاين زوجتي في بداية الحمل كان أجر فحصيتها 300 ألف ليرة، ومع نهاية الحمل زاد أجرها ليصبح 600 ألف ليرة أي ضعف السعر.
زاد محدثًا: عندما أصبحت في شهرها الأخير، تشاورتُ مع الطّبيبة حول تكلفة الولادة، وفي حقيقة الأمر لقد كانت الأسعار صادمة بالنّسبة لي. فَفي مستشفى لا تعد فئة أولى، تبلغ تكلفة الولادة الطّبيعيّة 550$ ما يقارب ستّة عشرة مليون ليرة لبنانية. أمّا القيصريّة فَكلفتها 850$ أي ما يقارب خمسة وعشرون مليون ليرة لبنانيّة.

الدّاية هي الحلّ!

بعد اطّلاعه على الأسعار، يقول رفضت الدَّين وقرّرت اللّجوء إلى ما كانت عليه أمّي وجدّتي سابقًا..
لقد لجأ رضوان، بعد موافقة زوجته، إلى الدّاية “أم حسن” في منطقته حيث كانت تعمل قابلة قانونيّة في ما مضى من سنوات، عندما كان للقابلة مكتب وشأن وهيبة.

تكلفة الولادة في المنزل

يشرح رضوان مبتسمًا فيقول: هي صديقة اُمّي وهي أنجبتني، ولحسن الحظّ ما زالت تتمتّع بصحّة جيّدة، وقد استطاعت أن تنقذ الموقف وإلّا كنت سوف أمدّ يدي للأقارب والرّفاق وهذا ما لا أحبّذه، وقد قدمت لها مبلغًا زهيدًا كهديّة لا أكثر.

آثار جانبيّة بعد الولادة!

يقول: لم نلحظ أي آثار جانبيّة. يشكر الله كثيرًا ويحمده، ويصف زوجته بالغزالة النّشيطة، أما الطّفل فقد ولد بصحّة جيّدة.
يختم حديثه مع ابتسامة تحمل الكثير من الألم والتّهكّم: ولكن، الآن دخلنا ساحة الجهاد الأكبر فأسعار الحليب والحفّاضات تقسم الظّهر. الله كريم، الله كريم!

لبنان الّذي كان في ليالي العزّ “مستشفى الشّرق” وملجأ إخوانه العرب في العمليّاتِ الجراحيّة المستعصية، يعود أبناؤه اليوم نحو زمن الأجداد، وكأنّنا نقول للأجيال الآتية هذه البلاد لن تقدّم لكم إلّا الخراب والبؤس.
بلادي الجميلة قد ماتت على سرير الولادة في مستشفى الأوضاع العقيمة، لا بشرى حول ولادة أملّ بل خوف وانهيار وكَلَل…