الجمعة, ديسمبر 5, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةشريط الاحداثعودة ظاهرة ترك الرضع على الطرقات… تقاطع أزمات نفسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة

عودة ظاهرة ترك الرضع على الطرقات… تقاطع أزمات نفسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

|ندى عبد الرزاق|

تعود ظاهرة ترك الأطفال حديثي الولادة على الطرقات، لتفرض نفسها على واجهة النقاش الاجتماعي في لبنان. إنها ليست مجرد حوادث معزولة، بل انعكاس لفشل المجتمع والأهل على حد سواء في حماية أضعف أفراده. كل رضيع يُترك في الشارع معرّض للخطر المباشر، من البرودة والمرض إلى العنف والإهمال، وهذا يضع مسؤولية أخلاقية واجتماعية مباشرة على الأهل والمجتمع. تسليط الضوء على هذه الظاهرة يفرض التساؤل: لماذا لا يلجأ الأهل إلى الجمعيات أو المؤسسات المختصة؟ وكيف يمكن للمجتمع أن يضمن للأطفال حقهم في الحياة والرعاية منذ اليوم الأول؟

فقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لرضيعة لا يتجاوز عمرها الأيام، بعد ان تركها شخص متخفٍ بوشاح كبير امام احدى مداخل بنايات الشياح، ليجدها الناطور داخل كرتونة وهي تقاوم البرد والشتاء، حيث كان الطقس ماطرا والجو باردا، ولم يرق قلب الاهل لحالها، بعد تركها والفرار الى جهة غير معروفة.

الجمعيات تتكفل بما تهمله الدولة

يكشف مؤسس جمعية “سعادة السماء” الأب مجدي علاوي لـ “الديار”: “نحن نتكفل برعاية الأطفال الذين لا تتولى جمعيات أخرى الاهتمام بهم، لأنهم يكونون معرضين للعنف بشكل كبير، وقد تدهورت صحة بعض الحالات نتيجة التعنيف، وبالتالي يحتاجون إلى عناية ومتابعة ومرافقة دقيقة. ويلزم هؤلاء الأطفال مستشفى قبل أن نستقبلهم عندنا. لذلك، لا نجد أي مؤسسة أخرى تقوم بهذا الدور، إضافة الى ان بعضهم مكتومي القيد ويتطلبون أوراقا رسمية، كما أن المستشفى الحكومي لا يقوم برعايتهم أيضا. من هنا، تأتي أهمية تأمين مؤسسة تتحمل هذه الأعباء نيابة عنهم”.

ويشير الى ان ” مكتب الأحداث يتواصل معنا لعدم توافر ملجأ آخر لاحتوائهم. أما بالنسبة الى الذين نرعاهم في مؤسستنا، أو الذين يأتون إلينا، أو الذين نجدهم متروكين أمام أبوابنا، أو حتى الذين يعثر عليهم الآخرون، فنقوم على الفور بالاتصال باتحاد حماية الأحداث، الذي يبادر بدوره للتواصل مع القاضي المعني بهذه الأمور، والذي يتخذ القرار بوضعهم في مؤسستنا وفق الآليات الرسمية. ونحن من جهتنا، نتابعهم نفسيا وجسديا وصحيا، ونتولى تعليمهم وتربيتهم والاعتناء بهم”.

ويضيف: “يصل إلينا أطفال بعمر خمس سنوات لم يتلقوا أي لقاح مطلقا، وهؤلاء من حقهم الحصول على التطعيم، ويتحمل أصدقاء الجمعية والايادي البيضاء هذه المسؤولية، حتى نتمكن من تقديم الرعاية اللازمة للأولاد”.

للتبني أصول!

وبالنسبة للتبني، يعلق: “لا بد من توضيح نقطة مهمة للجميع، وهي أنه لا يحق لاي جمعية تسجيل اسم عائلة لمنحها طفلا. وبالتالي، تقتصر مهام المؤسسة على التربية والرعاية، وولي أمره هو قاضي الأحداث، الذي يحدد العائلة التي يذهب إليها الطفل”.

ويقول: “بعض الأطفال لديهم ملف عائلة بديلة، والبعض الآخر ليس لديه، كالرضيعة التي وجدناها قبل يومين وسميناها “ليوني”، نسبةً إلى زيارة البابا لاون الرابع عشر، وهو الاسم المؤنث للبابا، وسميناها به تعبيرا عن شكرنا للرب”.

ويكشف: “قبل أشهر، وجدنا طفلا مرميا بالقرب من مستشفى الحريري، وقد التقط ميكروبات وفيروسات، وكان وزنه حوالى كيلو واحد فقط، وقد سميناه “أغسطينو” تيمّنا بالقديس أوغسطينوس. وقبل ذلك، كان هناك طفل قد تعرض للتعنيف من قبل والدته، وقد أخذناه إلى مستشفى الكرنتينا الحكومي”.

التبرير والمسؤولية الإنسانية… يلتقيان؟!

ويشير الى ان “أن هناك عوامل عديدة قد تكون السبب في ترك هذا الرضيع في الشارع، وإلا لكانت والدته قد أجهضته”. ويوضح: “طلبت من وزير الصحة الاهتمام بكل طفل يولد على الأراضي اللبنانية ويستلزم دخوله إلى المستشفى، وقد كلف الوزير راكان ناصر الدين مستشاريه تقديم المساعدة لنا في هذا المجال، خاصة عندما يكون لدينا قضية مشابهة، وذلك لضمان إدخال الأطفال إلى المستشفى قبل انتقالهم إلى مراكزنا”.

ويختم: “نقيم في السادس من الشهر الجاري مسرحية بمناسبة الأعياد المجيدة في مدرسة الراهبات الوردية في جبيل. هذه الدعوة مفتوحة ومجانية للجميع، ويتمنى هؤلاء الأطفال حضور السيدة الأولى، لمشاهدة مسرحيتهم أو حتى لزيارتهم”.

وللرضيعة حصة من بركة رسول السلام!

اما في ما يتعلق بتفاصيل العثور على الرضيعة، فقد اثار هذا الخبر ضجة عارمة في الشارع اللبناني، قبيل زيارة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان، بعد أن عثر حارس في إحدى بنايات منطقة الشياح على طفلة رضيعة موضوعة داخل كرتونة، ملفوفة بغطاء في جو بارد جدا، وكان عمرها لا يتجاوز أياما قليلة.

ولتقصي صحة الخبر تواصلت “الديار” مع الآنسة زهراء حيدر التي كانت تحمل الطفلة، وأكدت أنها شعرت بصدمة كبيرة حيال ترك الأهل لطفلتهم في هذا الوضع، فاحتضنتها على الفور، وحاولت تأمين أسس الحماية الأساسية لها. بعد ذلك، نُقلت الطفلة إلى المستشفى لتلقي الرعاية الطبية اللازمة، وتم الاتصال بالقوى الأمنية التي بادرت مباشرة بتولي شأنها.

وبحسب معلومات “الديار”، قام مغفر الغبيري بالتواصل مع الأب مجدي علاوي، الذي أخذ الطفلة واحتضنها موفرا لها الرعاية والاهتمام والتربية اللازمة. وأوضحت التحقيقات أن شخصا مجهول الهوية، لم يتبين إن كان رجلاً أو امرأة، وضع غطاءً على رأسه لتجنب الظهور بالكاميرات، ووضع الطفلة أمام المبنى ثم فرّ إلى جهة مجهولة.

اسباب التخلي عن الرضّع

بدورها، تقول الاختصاصية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ “الديار”: “في الفترة الأخيرة نشهد في لبنان ظاهرة موجعة جدا: أطفال رُضّع بعمر يوم أو يومين أو ثلاثة، يُتركون على الطرقات بلا حماية، بلا صوت، وبلا حضن. هذا المشهد لا يمكن أن يمر مرور الكرام، لأنها تقف خلفه منظومة كاملة من الألم والضغط والتفكك”.

وتضيف: “من منظور علم النفس، لا يمكن تفسير هذا الوضع بدافع واحد. نحن أمام تقاطع أسباب اجتماعية، اقتصادية، نفسية وثقافية، تنفجر كلّها في وجه أضعف كائن ممكن: الطفل. وبالتالي، أول سبب واضح هو الضغط المعيشي القاسي. وهناك أهالٍ اليوم، يعيشون فقرا شديدا وعجزا تاما عن تأمين أساسيات الحياة، وهذا بحدّ ذاته يخلق حالة يأس تدفع الإنسان إلى اتخاذ قرارات مدمّرة. لكن من المهم أن ننتبه إلى أن الفقر لا يبرّر التخلي عن طفل، لكنه يفسّر الانهيار النفسي الذي قد يوصل الشخص إلى مرحلة، يصبح فيها غير قادر على تحمّل مسؤولية وجود حياة جديدة”.

السمعة مقابل روح!

وتتابع: “السبب الثاني مرتبط بالعلاقات السرية أو خارج إطار الزواج، والتي لا تزال للأسف عبئا اجتماعيا في لبنان. فالمجتمع يمارس حكما قاسيا، ويولد خوفا وعارا وقلقا وجوديا لدى الأم. في مثل هذه اللحظات، لا يعمل العقل بوضوح، بل يعمل بدافع الخوف: الخوف من الفضيحة، من الرفض، من العائلة ومن المستقبل. وهنا نرى كيف تكون الوصمة الاجتماعية، أقوى من غريزة الأمومة لدى بعض الأشخاص المنهارين نفسيا”.

وتكشف: “يوجد سبب ثالث أعمق: الحرمان العاطفي والاضطرابات النفسية غير المُشخَّصة. هناك نساء ورجال عاشوا إهمالا كبيرا في حياتهم، ولم يتعلّموا معنى الارتباط الآمن، ولم يبنوا قدرة على الاحتضان والرعاية. وعندما يصل طفل إلى هؤلاء الأشخاص، يشعرون به كتهديد، وكطلب عاطفي هم أصلًا لم يستطعوا تلقيه في حياتهم. وهنا نكون أمام أجيال من الألم تنتقل من دون وعي”.

لإصلاح منظومة الدعم قبل محاسبة الأهل

وتقول: “مع ذلك لا بدّ من قول الحقيقة: التخلي عن طفل ليس فعلا عشوائيا، بل هو صرخة. صرخة مجتمع ينهار، وثقافة تُحاكم بدل أن تحتوي، ونظام دعم نفسي شبه غائب. كل طفل يُترك، هو مرآة لمدى حاجة الأشخاص الذين أنجبوه إلى الحماية هم أنفسهم”.

وتضيف: “لذلك، بدل أن نكتفي بالغضب أو الاتهام، علينا أن نطالب بالآتي:

• دعم نفسي واجتماعي للنساء قبل وأثناء وبعد الحمل.

• مراكز حماية وتبليغ سريعة وفعّالة.

• برامج توعية جنسية ووقاية من الحمل غير المرغوب فيه.

• سياسات اجتماعية تحمي الطفل منذ لحظة ولادته.

هذه المطالب تضيف يونس “لأن الطفل ليس خطأ، الطفل ضحية”، وتؤكد ان “الظاهرة لا تتوقف بالعقاب، وانما تنتهي عندما نفهم الجذور، وحين يقرّر المجتمع أن يضع الإنسان قبل العيب”.

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img