الأحد, ديسمبر 7, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةSlider"مجمع نيقية".. نقطة التحوّل في مسار "الإيمان المسيحي"!

“مجمع نيقية”.. نقطة التحوّل في مسار “الإيمان المسيحي”!

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

في صيف سنة 325 بعد الميلاد، كانت مدينة نيقية، التي تُعرف بهدوئها وبحيرتها الواسعة، قرب مدينة اسطنبول، تتحوّل فجأة إلى مركز ثقلٍ ديني وسياسي، وإلى مسرح لاجتماع ربما كان الأهم في تاريخ المسيحية المبكر، بعدما دعا الإمبراطور الروماني قسطنطين أساقفة الشرق والغرب إلى اجتماع أقرب إلى مؤتمر عالمي للمسيحيين، حاول فيه رجال الدين رسم خريطة الإيمان ووضع حدٍ للانقسام الذي كان يعصف بالكنيسة الناشئة آنذاك، قبل أن يهدّد جسد الكنيسة الناشئة، وقبل أن تتحول إلى أزمة تهدد وحدة الإمبراطورية نفسها.

كانت المسيحية، آنذاك، تخرج ببطء من ظلال الاضطهاد، لتدخل مرحلة جديدة من الاعتراف والانتشار. لكن هذا الصعود لم يخلُ من التوترات الداخلية. أشهر تلك التوترات كان الجدل الذي أثاره الكاهن المصري آريوس، حين قدّم تصورًا مختلفًا لطبيعة المسيح، معتبرًا أن “الابن ليس أزليًا، بل مخلوقٌ سامٍ”. رأي بدا، في ظاهره، محاولة عقلانية لفهم العقيدة، لكنه أشعل خلافًا واسعًا بين الأساقفة.

ولأن الانقسام كان يتسع يومًا بعد يوم، استخدم الإمبراطور قسطنطين سلطته السياسية لتأمين نوع من التسوية الدينية. وهكذا بدأت الوفود الكنسية تتوافد إلى مدينة نيقية. نحو ثلاثمائة أسقف، من ليبيا إلى القسطنطينية، حتى من أطراف آسيا الصغرى، وصلوا وفي أذهانهم سؤال واحد: “كيف نعرّف الإيمان الذي يجمعنا؟”.

داخل قاعة كبيرة في القصر الإمبراطوري، بدأت المداولات التي امتدت أسابيع. لم تكن نقاشات أكاديمية بحتة. كانت صدامًا بين رؤى لاهوتية وقراءات مختلفة للتاريخ المقدّس، وخلفها طموحات سياسية ومشاعر شعبية تغلي. ومع ذلك، خرج المجتمعون في النهاية ببيان شكّل لحظة فاصلة في التاريخ” :قانون الإيمان”، الذي اعتبر بشكل صريح أن المسيح “مساوٍ للآب في الجوهر”. إنها العبارة التي أنهت الجدل الآريوسي رسميًا، وإن لم تُنهِ تأثيره تمامًا.

تأثر مجمع نيقية بأفكار بولس الرسول، والتي كانت حاضرة بشكل رمزي وروحي في كل نقاشات العقيدة.وشكّلت رسائله حول طبيعة المسيح والكنيسة أساسًا للفكر اللاهوتي الذي ناقشه الأساقفة في نيقية، وجعلت مجمل النقاش حول ألوهية المسيح ووحدته مع الآب أكثر وضوحًا.

كان بولس الرسول (وإسمه شاول الطرسوسي)، قبل نحو قرنين من مجمع نيقية، مضطهدًا للمسيحيين ويعمل على القبض عليهم وإيقاعهم، لكنه أثناء رحلته إلى دمشق، حدثت له رؤية للمسيح على الطريق، عندما سقط عن جواده وسمع صوت المسيح يقول له: “لماذا تضطهدني؟” أو “لماذا تعذب أتباعي؟”، كما ورد في سفر أعمال الرسل (أصحاح 9). قلبت هذه التجربة حياته تمامًا: من مضطهد للمسيحيين، إلى “رسول الأمم” الذي نشر المسيحية في كل أنحاء الإمبراطورية.

وبعدها، أصبح الإيمان بالمسيح محور حياته وتعليمه، وبدأ يكتب رسائله التي شكّلت أساس اللاهوت المسيحي الذي ناقشه الأساقفة في نيقية بعد أكثر من قرنين. بفضل رؤيته وتجربته، أصبح الإيمان بالمسيح و”وحدته مع الآب” محور النقاش في مجمع نيقية، ووضعت رسائله، التي تتضمن رؤيته لطبيعة المسيح وعلاقته بالإنسان، الأساس الفكري الذي استند إليه المجمع في صياغة “قانون الإيمان”.

لكن، مع ذلك، فإن “مجمع نيقية”، بقدر ما سعى إلى توحيد المسيحيين، كان أيضًا نقطة انقسام جديدة بينهم. فالحكم على الكاهن آريوس ورفض تعاليمه، لم يُسكت الجدل، بل أيقظ مقاومة في الشرق، واستمرت مجموعات واسعة في الدفاع عن رؤيته. وسرعان ما انقسمت الكنيسة بين “نيقويين”، و“آريوسيين”، وفئات وسطية حاولت التوفيق بين الطرفين.

وبينما كان مجمع نيقية محاولة لإغلاق باب الخلاف، كان عملياً بداية نقاش عقائدي طويل لم يتوقف عند زمن قسطنطين.

من نيقية إلى خلقيدونية.. طريق طويل من الجدل

خلال القرنَين التاليين، تطورت الخلافات من طبيعة علاقة الابن بالآب، إلى سؤال جديد أكثر حساسية: “كيف تجتمع الطبيعتان الإلهية والبشرية في شخص المسيح؟”.

وكان ذروة هذا الجدل في مجمع خلقيدونية عام 451م، الذي انعقد في مدينة خلقيدونية على الضفة الآسيوية لمضيق البوسفور مقابل القسطنطينية، أي في ما يُعرف اليوم بمنطقة Kadıköy  في إسطنبول الحديثة. اختيار هذا الموقع لم يكن صدفة؛ إذ كان قريبًا من العاصمة الإمبراطورية، مما سهّل حضور الأساقفة من مختلف أنحاء الإمبراطورية، وسهل أيضًا إشراف الإمبراطور الروماني الشرقي ماركيانوس (Marcianus)، المعروف باسم ماركيان، على القرارات. وكان ماركيان، الذي تولى الإمبراطورية الشرقية بعد وفاة ثيودوسيوس الثاني سنة 450 م.، حريصًا على استقرار الكنيسة ووحدة الإمبراطورية، ولهذا دعم انعقاد المجمع في خلقيدونية لإيجاد حل للخلافات اللاهوتية المتعلقة بطبيعة المسيح، بل وأشرف مباشرة على أعمال المجمع الذي صاغ تعريفًا عقائديًا يقول إن المسيح “له طبيعتان: إلهية وإنسانية، متحدتان في شخص واحد بغير اختلاط ولا امتزاج ولا انقسام”.

جاء هذا التعريف بهدف الحفاظ على توازن دقيق بين اللاهوت والناسوت.

وبخلاف مجمع نيقية الذي اعتمد على رسائل بولس، فإن مجمع خلقيدونية اعتمد كثيرًا على أقوال آباء الكنيسة الأوائل مثل أثناسيوس الإسكندري وكيرلس الإسكندري وليو البابا. هؤلاء ركزوا على الطبيعتين في المسيح (لاهوتية وبشرية) وحذروا من أي خلط أو امتزاج بينهما. واستفاد المجمع من ممارسات الكنائس المحلية وفهمها لطبيعة المسيح، خصوصًا في الشرق (مصر، سوريا، آسيا الصغرى)، لمحاولة صياغة نص جامع يقبل به أكبر عدد ممكن من الكنائس.

لكن تعريف مجمع خلقدونية ـ مثل مجمع نيقية من قبله ـ حمل معه ثمنًا باهظًا، حيث أدى إلى أكبر انقسام مسيحي قبل الانشقاق الكبير سنة 1054، حين رفضت الكنائس السريانية والقبطية والأرمنية هذا التعريف، لتتشكل عائلة الكنائس غير الخلقيدونية التي ما زالت قائمة حتى اليوم.

بين السياسة والعقيدة

وبينما حاول مجمع نيقية توحيد عيد الفصح وتنظيم الحياة الكنسية بقوانين جديدة، كشف المجمع عن معادلة جديدة بين الإمبراطور والكنيسة. فالتدخل السياسي ترك أثرًا طويل الأمد: فقد صار كل خلاف عقائدي لاحقًا مهددًا بأن يتحول إلى صراع سلطوي، لا مجرد نقاش لاهوتي.

وما حدث في خلقيدونية أعاد تأكيد الأمر نفسه: لاهوت يتطور، وسياسة تتدخل، ونتائج تترك بصماتها على الخريطة الدينية لقرون.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن المجامع الأولى ـ من نيقية إلى خلقيدونية ـ رسمت الطريق أمام المسيحية لتتخذ شكلها المؤسسي واللاهوتي الذي نعرفه اليوم. فقد وضعت لغة مشتركة للإيمان، وخلقت إطارًا يُمكّن الكنيسة من مناقشة خلافاتها تحت سقف واحد، حتى لو كانت النتيجة انقسامًا بعد آخر.

للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط

https://chat.whatsapp.com/KcTcdtSlZ5a0SaZPTZsoiV?mode=ems_copy_c

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img