| سامية إسماعيل |
يعبر صوت السيدة فيروز أثير أكثر من سبعة عقود على حضورها الأول، بل وربما يقفز إلى يوم ولادتها قبل 90 عاماً.
عبرت فيروز الزمن من دون أن يخفت وهج صوتها. بل عل العكس، خرقت جدار الزمن وتردّد الصدى بطبقات إلى الأزمان الآتية.
أصبحت فيروز أيقونة لبنان، تشبه الأرز الذي كلّما عمّر ازدادت قيمته وتعمّق رسوخه.
وأصبحت فيروز رمزاً لوطن، وقومية، وقضية، بل وتراثاً محفوظاً في الذاكرة الإنسانية.
بل وأصبحت فيروز مقياساً ذهبياً لمعايير الصوت والفن واللحن والرصانة والشخصية، قد لا تصل “موجات” النجوم و”الصيحات” العابرة إلى درجة التصنيف في ميزانها.
ثمة نغم في صوت فيروز ما يتغلغل إلى تركيبتنا الداخلية بكل ما فيها من مشاعر وانفعالات ولحظات سكون من ليالينا ونهاراتنا.
ثمة إيقاع في صوت فيروز ينتظم به الفن ليستعيد إيقاعه الطبيعي.
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، تعبر فيروز محطة تسعينياتها، هي التي لطالما بقيت طيلة 7 عقود صوتاً جامعاً، حتى لأولئك الذين فرّقتهم الجغرافيا والسياسة، وغنّت لهم في سكون الليل وفي صباحاتهم، فأيقظتهم من أحلام الليل وأشرقت مع شمسهم، لتكون رمزاً لوطن صغير يؤمن أهله أنه أكبر من حجمه الجغرافي، بما أن فيروز تذكّرهم بـ”زهرة المدائن” و”مدينة الصلاة” و”أهل مكّة الصيدا” و”شط اسكندرية”.. بدءاً من “بحبك يا لبنان”…
قبل فيروز كان الصباح باردًا، وقتٌ يأتي ويذهب، ضوء يتسلل إلى الناس دون أن يحمل ذاكرة، يفتح أبواب النهار على مصراعيه، كأن أحداً لا يحمل مفاتيحه.
لكن الصباح بعد فيروز ليس كما قبلها، أعطت له معنى، وصارت له طقوسٌ، ونبرة خاصة، وبداية لا تبدأ إلا بها، وكأنها أعطته سببًا ليبتسم، أو أنها وحدها أعادت ترتيب ساعات النهار. بدا الصباح وكأنها هي من اخترعته، أو أنه لم يكن موجودًا قبلها، أو أننا لم نكن نعرفه على الأقل.
ولعل سرّها الأكبر يكمن في أنها تغني كما لو أنها تحرس شيئًا ثمينًا داخل كل واحدٍ منا، شيئًا نخشى أن يضيع إن صمتت.

ولدت فيروز في بلدة “الدبية” في 21 تشرين الثاني من العام 1935، حاملةً إسم “نهاد حداد” الذي توارى في الظل وبقي الإسم الذي عهدناه، لأبوين هما: وديع حداد، وليزا البستاني، ولها أُختان هما: هدى ـ وبالطبع هي غنية عن التعريف ـ وآمال التي تمتلك الموهبة كما أُختيها إلا أنها فضلت الرسم على الغناء، وأخٌ واحدٌ هو جوزيف. وقد نشأت فيروز في العاصمة بيروت، في منطقة “زقاق البلاط” تحديدًا.
في العام 1946، وأثناء جولة كان يقوم بها الملحن اللبناني محمد فليفل على المدارس لاختبار أجمل الأصوات كي يستعين بها في كورال الإذاعة اللبنانية، وقع الاختيار عليها وعلى فتاة أخرى، إلا أن والدها المحافظ عارض أن تغني إبنته أم الناس، لكن في النهاية، نجح فليفل في إقناعه، بعد أن أكد له أنها ستغني الأغاني الوطنية فقط، فوافق شرط أن يرافقها أخيها جوزيف.
وتعلمت فيروز الغناء والنوتة الموسيقية، مظهرةً موهبةً فريدةً في سرعة التقاطها الألحان وطريقة تأديتها. وفي أوائل العام 1950 التحقت بفرقة الأخوين فليفل التي كانت تقدم الأناشيد الوطنية والمدرسية في الإذاعة اللبنانية، وقد قدمها الأخوان فليفل إلى لجنة الاستماع التي كانت تضم حليم الرومي وغيره من الأسماء المرموقة، فتبناها الرومي فنيًا وأطلق عليها إسم “فيروز”، الإسم الذي سيعيد تشكيل صباحاتنا.
لحن لها الرومي أغنيتها الأولى “تركت قلبي وطاوعت حبك” في نيسان من العام 1950، لتبدأ في العام 1952 بتسجيل أغانيها على الاسطوانات. وكان حينها عاصي الرحباني عازفًا للكمان في فرقة الاذاعة اللبنانية وملحنًا مبتدءًا في ذلك الوقت، وقد كلفه الرومي بتلحين أغانٍ حديثةٍ لها، إلا أنه قال إن صوتها لا يصلح للأغاني الحديثة، إنما يصلح فقط للأغاني الشعبية، ليرد عليه الرومي متنبئًا أن صوت فيروز لديه قدرة فائقة على أداء كل الألوان الغنائية، وسيكون أكثر الأصوات على أداء الألحان الحديثة في العالم. وقد سطع نجم الثلاثي فيروز وعاصي ومنصور الرحباني في هذا العام.

تزوجت فيروز من عاصي في تموز عام 1954، بعد أن ساعده منصور في إقناعها، إذ أنها لم ترغب بالزواج في ذلك الوقت، ولم تكن ترى نفسها كمطربةٍ أيضًا، وأنجبت منه 4 أطفال: زياد، وهالي، وليال، وريما.
شكلت شراكة فيروز مع الأخوين الرحباني حجر الأساس لعصرٍ ذهبي في مسيرتها الغنائية والمسرحية. ما جعل هذه الشراكة مميزة هو المزج الموسيقي الذي قدماه عاصي ومنصور، إذ جمعا بين الموسيقى الشعبية اللبنانية، والتقاليد العربية، بالإضافة إلى التأثيرات الغربية، كالموسيقى الكلاسيكية والجاز، وحتى لمسات من الموسيقى اللاتينية، جامعين الفلكلور والفن الحديث. أما الأعمال المسرحية لم تكن للترفيه فقط، إنما حملت في طياتها قضايا فكرية واجتماعية، كالقيم والحنين، والقضايا الوطنية والفلسفية.
في أواخر الخمسينيات، صعدت فيروز إلى خشبة مهرجانات بعلبك الدولية، وكان المشهد جديداً كلياً على الجمهور: ثوب أبيض، وقفة ثابتة، صوت دافئ وهادئ، وأداء لا يعتمد على الزخرفة بل على الصدق والعمق.
من تلك اللحظة، أصبحت فيروز سيدة المسرح اللبناني بلا منازع.
قدّمت أعمالاً أصبحت جزءاً من الذاكرة الجماعية: “بياع الخواتم”، “صحّ النوم”، “جسر القمر”، “هالة والملك”، “ناطورة المفاتيح”، “المحطّة”، “بترا”…
مع اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، غابت مهرجانات بعلبك وتوقّفت معظم المسارح، لكن صوت فيروز لم ينقطع.
لم تنضمّ إلى فريق، ولم تغنِّ لميليشيا، ولم تُقِم حفلات داخل لبنان طوال سنوات الحرب. غنّت فقط للأرض والإنسان، مقدّمة موقفاً نادراً في وقت كانت الأصوات تُقسّم البلاد. أصبحت أغنية “بحبك يا لبنان” نشيداً للبنانيين الذين ينشدون انتهاء الحرب وعودة التلاقي بينهم.
لم يكن لقاء فيروز بالأخوين رحباني مجرد تعاون فني، بل لحظة تأسيس لهوية موسيقية جديدة. ففي زمن كان يستند إلى الطرب الكلاسيكي الممتد، جاء صوتها ليقدّم اقتراحًا مغايرًا: صوت رقيق لكنه نافذ، حميمي لكنه قادر على تشكيل وجدان جماعي واسع.
صار صوت فيروز أداة لبناء سردية وطنية سلسة وغير مباشرة، سردية تستند إلى القرية، إلى المطر، إلى الحجر القديم وإلى لبنان الذي يشتهي أن يكون جميلًا مهما تعثّر واقعه. بهذا التوجّه، لم تعد الأغنية مجرد فن، بل أصبحت جزءًا من مشروع ثقافي يسعى لإعادة اكتشاف الهوية اللبنانية وصياغتها موسيقيًا.
في المسرح، تحوّل صوت فيروز من مادة غنائية إلى شخصية درامية كاملة. كانت في أدوارها فتاة القرية، أو العاشقة المتمردة، أو المرأة التي تقف وحدها في مواجهة سلطة ظالمة.
وعبر أعمال مثل “بياع الخواتم” و”هالة والملك” و”جبال الصوان” و”بترا”، دخلت فيروز في عمق السرد العربي الجمعي، لتصبح صوتًا قادرًا على حمل الأسئلة الوطنية والسياسية دون مباشرة أو شعارات.
أما عن تجرتها السينمائية فتقول فيروز: “لم أقبل، وخفت كثيرًا، لكن عاصي كان يريد أن يرى النتيجة ولم يرد على إجابتي، كنت أبكي أحيانًا وأخبره أني لا أستطيع، فيقول لي: لا عليك”، معتبرةً أفلامها يُبقي لها الأشياء الجميلة في الذاكرة، مشكلة الوعي الحديث، ناقلة جغرافية المكان وإنسانيته برومانسية حالمة.

في نهاية السبعينيات أصيب عاصي بنزيف دماغي حاد، ثم رحل عام 1986. وشكّلت خسارته واحدة من أصعب المراحل في حياة فيروز الشخصية والفنية. في تلك الفترة، بدأ ابنها زياد الرحباني قيادة المرحلة الموسيقية الجديدة. كانت النتيجة لوناً مختلفاً تماماً. أعاد زياد تركيب موسيقى فيروز، مما أعطى أغانيها طابعًا عصريًا وتجريبيًا بعيدًا عن الأوبريتات الريفية التقليدية.
شارك زياد في كتابة وتلحين أغانٍ مهمة لفيروز حُفرت في الذاكرة اللبنانية. وفي العام 2000، قدمت فيروز أغانٍ جديدة من تأليفه على مسرح بيت الدين، ملاقيةً ترحيبًا واسعًا من جيل الشباب الذي رأى فيها وجهًا متجددًا، لتصدر بالتعاون معه ألبومها الأخير “في أمل” في 6 تشرين الأول.
شراكتها بزياد مثلت “ثورة فنية”، إذ أعاد رسم صورتها في أذهان الناس كشخصية فنية مرنة، قادرة على التحرك في مساحات موسيقية جديدة ومخاطبة قضايا جديدة أيضًا.
فيروز هي بطلة أول مهرجان شعبي لبناني للغناء والرقص، والذي أُقيم في بعلبك عام 1957، وكانت أول من دشن مهرجانات معرض دمشق الدولي، دافعًا بها طموحها الفني للانطلاق خارج حدود اللغة العربية، فغنت باالفرنسية والانجليزية، ورتلت باللغة اليونانية، كما كانت لها جولات فنية عالمية بدأت عام 1961، فسافرت إلى البرازيل، الأرجنتين، أميركا، بريطانيا، فرنسا…
لا يمكن للمرء أن يختصر فيروز مهما حاول، وما هذه إلا محاولة خجولة لنقل قطرةٍ من بحر، فقد صارت في وجداننا أكثر من صوت، وأكثر من مجرد امرأة غنت، حملت معها قداسة لم تُصنع، بل وُلدت معها، ويبقى لنا أن نستمع، أن ندهش، وأن نحب كما لو أننا نسمعها للمرة الأولى، فقد صارت فيروز بالنسبة إلينا فكرة مقدسة، والأفكار لا تموت.

للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط
https://chat.whatsapp.com/D1AbBGEjtWlGzpr4weF4y2?mode=ac_t














