| ناديا الحلاق |
بعد أعوام طويلة من الركود والصمت، تعود أسواق بيروت لتتنفّس الحياة من جديد، وتستعيد إيقاعها الذي لطالما شكل جزءًا من نبض العاصمة وروحها. فالمدينة التي اعتادت النهوض بعد كل عثرة، تُعيد افتتاح أحد أهم معالمها الاقتصادية والثقافية، في مشهدٍ يختصر قدرة بيروت الدائمة على البقاء، مهما تبدّلت الظروف وتكاثرت الأزمات.
في قلب العاصمة، حيث تختلط حجارة التاريخ بوهج الحداثة، تتلألأ “الأسواق” مجددًا كرمزٍ للعيش المشترك والحركة والانفتاح. فالأمر لا يتعلق بمجرد إعادة فتح متاجر أو تشغيل مطاعم، بل هو إعلان رمزي بأن بيروت ما زالت حيّة، وأنها قادرة على إعادة ترميم صورتها من خلال نبض الحياة اليومية، من ضحكات المتسوّقين، إلى أصوات الموسيقى في الساحات، ورائحة القهوة في المقاهي.
عودة تروي قصة مدينة
التحضيرات للاحتفال بعودة “أسواق بيروت” لا تقتصر على الفعاليات الفنية والاستعراضات التي ستملأ شوارعها، بل تمتد إلى إحياء ذاكرة المكان بكل ما تحمله من حنين وذكريات. فكل زاوية في هذه الأسواق تحمل حكاية، وكل حجر يروي فصلًا من تاريخ مدينةٍ عاشت الحروب، والازدهار، والانكسارات، ثم عادت لتكتب فصلاً جديداً عنوانه الإصرار على الحياة.
الاحتفالات ستتوزّع على أكثر من يوم، لتتحول الأسواق إلى مساحة مفتوحة للفن والثقافة والعائلة. موسيقى حية في الساحات، معارض للحرف والفنون، أنشطة للأطفال، وأجواء احتفالية تُعيد الدفء إلى وسط المدينة. إنها عودةٌ لا تستهدف فقط الحركة التجارية، بل إحياء الروح الجماعية التي طالما ميّزت بيروت عن سواها من المدن.
استثمارات تُعيد الثقة
لكن خلف المشهد الاحتفالي، ثمة قصة اقتصادية لا تقل أهمية. فعودة “أسواق بيروت” لم تأتِ صدفة، بل جاءت تتويجاً لموجة من الاستثمارات الجديدة التي بدأت تتدفّق نحو الوسط التجاري خلال الأشهر الماضية.
مصادر اقتصادية مطلعة تشير إلى أنّ عشرات ملايين الدولارات ضخّت لإعادة تأهيل المحال واستقطاب علامات تجارية عالمية، ما يعكس ثقة متجدّدة بلبنان من المستثمرين المحليين والأجانب على حدّ سواء.
هذا التحول أعاد الحركة إلى شوارع كانت حتى وقت قريب شبه خالية. المحلات تفتح، المقاهي تعود لاستقبال الزوار، والواجهات التي كانت مغلقة باتت تنير ليالي بيروت مجدداً. إنها عودة بطيئة ولكنها ثابتة، تُبشّر بإحياء تدريجي لدورة الحياة الاقتصادية.
رهان على الأمل رغم المخاطر
ورغم أن التحديات لا تزال كثيرة، من ضعف القدرة الشرائية إلى الغموض السياسي، إلا أن التجار يبدون إصراراً لافتاً على المضيّ قدماً. بعضهم يصف الأمر بأنه “مغامرة من لحمنا الحي”، في إشارة إلى حجم المخاطرة التي يخوضونها وسط واقع اقتصادي غير مستقر. لكن هذه المخاطرة، كما يقول أحد المستثمرين، “هي جزء من طبيعة بيروت التي لا تعرف الاستسلام”.
فعودة الماركات العالمية إلى الشوارع ليست مجرد خطوة تجارية، بل هي تصويت ثقة على مستقبل المدينة، ورسالة إلى الخارج مفادها أن لبنان، رغم جراحه، ما زال قادراً على النهوض وصناعة الجمال من قلب الركام.
ما هو أبعد من التجارة
الاحتفال بانطلاقة “أسواق بيروت” يحمل بعدًا يتجاوز الاقتصاد. فهذه العودة ليست فقط لإحياء قطاع تجاري، بل لإعادة المعنى إلى وسط العاصمة، واستعادة صورة بيروت كمدينةٍ تجمع بين التسوّق والثقافة، بين العمل والفن، بين التجارة والذاكرة.
لقد كانت “الأسواق” دائمًا أكثر من مجرد مركز تجاري. كانت مسرحًا للحياة اليومية، وملتقى للناس من كل الطوائف والمناطق، ومكانًا يتجسّد فيه جوهر بيروت كمدينة للانفتاح والتنوّع. واليوم، مع عودتها إلى الحياة، تستعيد العاصمة بعضًا من هويتها الضائعة، وتذكّرنا بأن بيروت لا تموت… بل تُعيد اختراع نفسها كل مرة بطريقة أكثر إشراقًا.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” على الواتس اب إضغط على الرابط
https://chat.whatsapp.com/KcTcdtSlZ5a0SaZPTZsoiV?mode=ems_cop














