| محمد محمود شحادة |
لم يكن إخفاء الإمام السيد موسى الصدر في ليبيا، سنة 1978، مجرد حادثة غامضة أو فعل فردي معزول، بل جاء في لحظة تاريخية دقيقة تشابكت فيها مصالح داخلية وإقليمية ودولية، لتجعل من تغييب رجل بحجم وطن وأمة ضرورة عند أطراف متعددة. فالإمام الصدر لم يكن زعيماً دينياً كسائر الساسة من رجال الدين، بل كان مشروعاً سياسياً واجتماعياً ومقاوماً قادراً على إعادة صياغة التوازنات في لبنان والمنطقة، من خلال نهوض الفكر الشيعي باستقلالية وفرضه المبدع الأول في وطنه.
في العام الذي وقعت فيه عملية الاختطاف، وبعد أسبوعين، كانت مصر توقع اتفاقية “كامب دايفيد” مع “إسرائيل” برعاية أميركية بتاريخ 17 أيلول 1978، الخطوة الأولى في مسار كسر الجبهة العربية، ذاك الاتفاق أنهى عملياً الجبهة الغربية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفتح الباب أمام موجة تسويات فردية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
الإمام الصدر كان من الأصوات العربية القليلة التي رفضت أي تسوية منفردة، وحذّر من أن التنازل المصري سيترك لبنان وفلسطين في مواجهة مكشوفة. وبالتالي، فإن إبعاده كان يخدم مصلحة قوى أرادت تمرير الاتفاق من دون أصوات مزعجة تهدد سردية “السلام” الأميركي.
في المقلب الآخر كانت الثورة الإسلامية في إيران هاجس الشاه والغرب. وعشية إخفاء الامام الصدر، كانت إيران على أبواب زلزال سياسي: سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني. وللامام للصدر علاقة تاريخية بالإمام الخميني وبالمعارضة الإيرانية (آنذاك)، وكان يُنظر إليه كجسر بين شيعة لبنان وإيران، وقوة قادرة على تصدير روح الثورة إلى المشرق. كان الشاه، وحلفاؤه الغربيون، يرون في هذا التقاطع خطراً استراتيجياً، إذ إن وجود الصدر سيعني ولادة محور شيعي سياسي عابر للحدود. فإبعاده عن المشهد في هذه القراءة ساهم في تفكيك شبكة الدعم المبكر للثورة وتقليص بدائل القيادة.
أما في الظروف الداخلية، فمنذ اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975، كان الإمام الصدر لاعباً أساسياً في محاولة حماية لبنان من نيران الحرب وحماية الطائفة الشيعية من التهميش والفوضى، من دون الضلوع بزواريب المحاور، حيث أنشأ “حركة المحرومين” ـ “أمل” لتكون قوة منظمة في وجه الإعتداءات الإسرائيلية والفوضى الفلسطينية والفراغ الرسمي اللبناني، بعيدة عن تنفيذ أجندات سورية وإيرانية. لكن مواقف الإمام الرافضة لبعض ما كان يصدر من “منظمة التحرير الفلسطينية” في لبنان، لا سيما القرى الجنوبية، وانتقاداته لتصرفات بعض الفصائل المسلحة، وضَعَتْه في صدام كان يرفضه مع قوى كان ينبغي أن تتعاون معه لمواجهة “إسرائيل” والنهضة في مشروعه الوطني الوجدوي والعروبي والتعايش الإسلامي – المسيحي.
جاء تغييب الإمام في هذا السياق. غيابه كان يخدم أطرافاً داخلية وإقليمية أرادت إضعاف المشروع الشيعي المعتدل لصالح مشاريع أخرى، وكذلك تغييب رجل الوحدة الوطنية والتعايش لمصلحة المحاور والجبهات ومن يستفيد منها.
الحدث الأكثر استثناءً هو اجتياح لبنان 1978، الذي يُعتبر ضغطاً إسرائيلياً مباشراً، ففي آذار 1978، نفذت “إسرائيل” اجتياحاً واسعاً للجنوب اللبناني عُرف بـ”عملية الليطاني”، بحجة ضرب قواعد المقاومة الفلسطينية. الإمام الصدر كان من أبرز الداعين إلى مقاومة هذا الاحتلال الإسرائيلي ولو بالسلاح الوضيع والأسنان والأظافر، وقد حذّر من الخطأ المؤدي إلى الضعف والشرذمة الذي يمكن ان يبرز في الإنقسام اللبناني في وجه “إسرائيل”. كان وجود قائد مثل الإمام الصدر بخطابه المقاوم وشبكته الشعبية، عائقاً أمام المشاريع الإسرائيلية لإخضاع الجنوب وتحويله إلى منطقة رخوة. إلا أن غيابه المفاجئ في ليبيا بعد أشهر قليلة من الاجتياح، فتح الباب أمام “إسرائيل” لمزيد من التمدّد من دون وجود قيادة لبنانية شيعية موحدة تعترض.
تم إخفاء الإمام الصدر في ليبيا في 31 آب 1978. لا يمكن قراءة العملية بعيداً عن طبيعة النظام الليبي بقيادة معمر القذافي، الذي دخل في صدامات فكرية وسياسية مع الإمام الصدر، فالقذافي كان يطرح شعارات ثورية و قومية، بينما الإمام الصدر مثّل مشروعاً إسلامياً اجتماعياً متجذراً في الواقع اللبناني. لذلك فإن اختطافه على الأراضي الليبية يمكن أن يُقرأ كخدمة لعدة أطراف:
للقذافي الذي تخلص من خصم فكري وسياسي.
لـ”إسرائيل” والغرب الذين أراحهم غياب صوت مقاوم لاتفاقيات التسوية.
لبعض الأنظمة العربية التي خشيت من تحوّل الصدر إلى زعيم عابر للحدود.
اختفاء الإمام موسى الصدر لم يكن حادثة لبنانية معزولة، بل كان نتاج تقاطع ثلاث دوائر كبرى:
- 1. “كامب دايفيد” الذي أراد إخراس المعترضين على التسويات.
- 2. الحرب الأهلية اللبنانية التي أنتجت صراعات مع قوى فلسطينية ولبنانية.
- 3. الاجتياح الإسرائيلي 1978 الذي جعل من تغييب قيادة المقاومة مكسباً استراتيجياً.
وبين هذه الدوائر، تحوّل القذافي إلى الأداة المباشرة في تغييب الإمام، بينما المستفيدون تعدّدوا بين عواصم عربية ودولية أرادت كسر معادلة جديدة كان الإمام الصدر يسعى إلى بنائها: معادلة مقاومة. وحدة وطنية. استقلالية القرار الشيعي في لبنان، من دون الإرتهان لأي دولة، عربية كانت أو غير عربية.
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط














