| فيصل طالب |(*)
يُعدّ معرض رشيد كرامي الدولي في طرابلس تحفة معمارية فريدة، ومعلماً حضارياً بارزاً، وصرحاً اقتصادياً وثقافياً عظيم الأهمية.
بدأ إنشاء المعرض في بداية الستينيات من القرن الماضي، على يد المهندس البرازيلي أوسكار نيماير الذي وضع له تصميماً بديعاً راعى فيه مقتضيات الحداثة في حينه، بما تميّز به من منحنيات جريئة وقباب ضخمة وأشكال معمارية مبتكرة، حتى ليصحّ فيه القول إنّه أجمل الصروح العمرانية الحديثة بمقاييس الهندسة المعمارية في زمانه. إنه تجسيد حيّ للحداثة والتقدم في فترة ما بعد الاستقلال يعكس الرؤية الطموحة للمستقبل، ورمز لمشروع تنموي كبير يختزن إمكانات هائلة، ويجمع بين الأهمية الاقتصادية والقيمة المعمارية والأهلية ليكون منصّة ثقافية كبرى.
وبسبب اندلاع الحرب اللبنانية ( 1975 – 1990) لم يجرِ استكمال عملية إنجازه، ومن ثمّ استثماره على النحو الذي أنشئ من أجله؛ فضلاً عمّا تعرّض له من أضرار بنتيجة هذه الحرب، وما تلا ذلك من إهمال وتردّ في أوضاعه.
إن المعرض هو بحق شاهد صامت على تاريخ لبنان الحديث الذي عرف نهضة هائلة في الستينيات امتدت حتى إواسط السبعينيّات، ثمّ شهد سقوطاً مريعاً في أتون الحرب المدمّرة.
تجدر الإشارة إلى أنّ المعرض، بسبب الحالة المتدهورة التي وصل إليها، تمّ إدراجه من قبل منظمة “اليونسكو”، في شهر كانون الثاني من العام 2023، على لائحة التراث العالمي المهدّد بالخطر؛ بحيث يفترض أن يسترعي ذلك الانتباه إلى أهمية المعرض كتحفة معمارية، وحاجته إلى الدعم المالي والفني اللازمين لترميم منشآته وحمايتها من خطر التداعي والسقوط.
لقد كان الدور المرسوم للمعرض عند إنشائه يتجاوز كونه مركزاً للمعارض التجارية؛ إذ كان يهدف إلى جعل طرابلس وجهة اقتصادية وثقافية وسياحية، ومركزاً إقليمياً للاستثمار وإقامة المؤتمرات والندوات والمعارض الدولية والمتخصّصة، بما في ذلك، بطبيعة الحال، تنشيط الحركة الإنمائية في الشمال بخاصة ولبنان بعامة، بحيث يستقطب المعرض الاقتصاديين وأهل الفكر والفن والتراث والعمران في المنطقة والعالم، على قاعدة ما أقيم فيه من منشآت تخدم هذه الغايات ( قاعة المعارض الرئيسية، المسرح المكشوف، المسرح التجريبي، الجناح اللبناني، قاعة المؤتمرات، متحف الفضاء،…).
لقد عانى المعرض، وعلى مدى عقود، جموداً طويلاً حال دون تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها، على الرغم من إقامة بعض الأنشطة فيه من حين إلى آخر، وذلك بسبب تراكم عوامل عديدة متداخلة، من غياب السياسات التنموية المتكاملة، وتراجع الاستقرار الاقتصادي والمالي، وتقلّص الاستثمارات، وتوالي الإهمال.
واليوم، وفي ضوء الأجواء المبشّرة بالنهوض وقيامة البلاد من كبوتها، وانطلاقاً من الحاجة الملحّة إلى إحياء الحراك الإنمائي في طرابلس والشمال بخاصة وفي لبنان بعامة، وبعد تعيين مجلس إدارة جديد للمعرض، يصبح من الواجب المبادرة، ومن دون تأخير، إلى البدء بورشة إعادة الاعتبار للمعرض، واستنهاض القدرات الكامنة فيه، وتفعيل دوره ليكون محرّكاً للتنمية المستدامة، وجسراً للتواصل بين القطاعات الإنتاجية والإبداعية المحلية والعربية والدولية، وحاضنة للابتكار، ومركزاً للتواصل والتفاعل والانفتاح، على قواعد الاستقرار السياسي والأمني، والإرادة السياسية الواضحة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، والمشاريع الاستثمارية المحلية والعربية والدولية، وإلشروع في ورشة الترميم والتأهيل بالتعاون مع منظمة “اليونسكو”، والمباشرة بحملة إعلامية لإعادة تعريف المجتمع بالمعرض وأهميته ودوره…
إن إطلاق المعرض في فضاء الفعل والتفاعل لا يمكن أن يتمّ وفق المفهوم التقليدي للمعارض، بل برؤية حديثة تتطلّب مقاربة شاملة تجمع بين الاقتصاد والاجتماع والثقافة في الإطار الجدلي، وتأخذ بعين الاعتبار الانتقال بالمعرض من مجرّد مركز لعرض المنتجات في فترة محدّدة، إلى ملتقى للعقول المبدعة، وعرض للأفكار الخلّاقة، ومتحف للفن المعماري، وفضاء للاستكشاف، ومنصّة للتجارب والتفاعل (استخدام تقنيات الواقع الافتراضي، تجريب أحدث التقنيات، ورش عمل حيّة للحرفييين،…)، والتحوّل من الحدث المؤقت أو العابر إلى الأنشطة والفعاليات المكرّسة والممنهجة والمشاريع المستدامة (عروض أفلام، مهرجانات موسيقية، عروض مسرحية، معارض فنية وثقافية وتراثية، متاحف صغيرة، قاعات للتدريب، أجنحة دائمة للمؤتمرات، مطاعم ومقاهٍ دائمة تستفيد من المساحات الخلّابة،…)، والانتقال من المعارض العامة إلى المعارض المتخصّصة ( طبية، تكنولوجية، سياحية…)، ومن المعرض المكاني/ المحلّي إلى المعرض الرقمي والتقني (تطبيقات ذكية، ومنصات افتراضية لزيارة المعرض، والتواصل مع العارضين، ومتابعة الفعاليات عن بعد،…)، وربط المعرض بالقطاعات الإنتاجية والإبداعية، وجعله منصّة لدعم الاقتصاد المحلي وتسويق منتجاته مع الحفاظ على مقوّمات الاقتصاد الأخضر، والتشبيك مع معارض ومؤسسات دولية لتبادل الفعاليات والخبرات، وبناء شراكات مع الجامعات والبلديات وغرف التجارة والصناعة والزراعة… كل ذلك مع الحرص على إدماج معايير الاستدامة في تشغيل المرافق والبنية التحتية للمعرض.
بهذه الرؤية المتكاملة يمكن لمعرض رشيد كرامي الدولي أن ينهض من واقعه الحالي، مستفيداً من الموقع الاستراتيجي لمدينة طرابلس وما تختزنه من إرث حضاري كبير، ليكون على المستوى الاقتصادي بوابة للاستثمار والتجارة، وعلى المستوى الثقافي منبراً مفتوحاً للإبداع والتبادل، وعلى المستوى الاجتماعي مساحة للاندماج والتلاقي. إنه مشروع يربط بين الأصالة والانفتاح، وبين الاقتصاد والإبداع، وبين المجتمع المحلي والعالم، ويطلق دينامية جديدة تغني المشهد الإنمائي في لبنان، وتؤكد على رسالة الثقة بالقدرة على التعافي والإنجاز.
ويبقى المعرض، رغم كل شيء، ومهما طال الزمن، حكاية حلم مقطوع، وكتاباً غير مكتمل ينشد إتمامه بفصل الخروج من حفرة الجمود إلى فضاء الفاعلية، والانتقال من ذاكرة الماضي إلى حيّز المستقبل.
(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة
للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط














