الجمعة, ديسمبر 19, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةشريط الاحداثالتفكير داخل "الصندوق": ضرورة المنطق.. أم خيانة الاحتمال؟

التفكير داخل “الصندوق”: ضرورة المنطق.. أم خيانة الاحتمال؟

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

| د. طرائف موسى |

في زمنٍ تتسارع فيه دعوات “كسر القواعد”، أصبح التفكير خارج “الصندوق” شعارًا يُرفَع في ساحات الابتكار، وميدانًا للتمرّد على السائد. لكن، هل التفكير داخل “الصندوق” دومًا عجز؟ أليس لـ”الصناديق” وظيفة؟ أليست بعض الحدود هي التي تجعل المعنى ممكنًا؟ وهل التفكير خارجها دائمًا فضيلة؟

ما بين النظام والتمرد، بين العقلانية والانفلات، تتأرجح معضلة الإنسان المعاصر: أين تنتهي الحماية ويبدأ القيد؟ وأين يبدأ الإبداع وأين يتحوّل إلى عبث؟

 

“الصندوق” كمنظومة عقلية: بين الراحة والركود

“الصندوق” هنا ليس مجرّد استعارة جامدة، بل هو بنية ذهنية، تشكّلت عبر الزمن بفعل التجربة والتلقين، الثقافة والمعتقد، اللغة والسلطة. يشبه إلى حد بعيد ما أشار إليه ميشيل فوكو حين تحدّث عن “أنظمة الخطاب” التي تحكم ما يمكن التفكير فيه وما لا يمكن.

إن التفكير داخل “الصندوق” هو في أحد وجوهه، راحة العقل حين يسلّم للمألوف والمكرّر، ويتنازل عن مواجهة الغموض. يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في مقالته “ما التنوير؟”: “القصور هو العجز عن استخدام الفهم دون توجيه من الآخر، وهذا القصور ذاتي حين لا يكون سببه الجهل، بل غياب العزم على التفكير بنفسك”.

هكذا يصبح “الصندوق” حصنًا يحمي من التناقض، لكنه أيضًا قد يصبح جدارًا يعزل عن الاحتمالات. والفرق بين الحماية والسجن هو حرية الخروج.

 

حين يكون التفكير داخل “الصندوق”.. فضيلة!

المفارقة أن بعض أعظم الإبداعات وُلدت داخل القيود. الشاعر لا يكتب شعرًا حرًا فقط لأنه يرفض الوزن، بل أحيانًا يصنع من البحور تواقيع نغميّة. في الفن، كما في الفكر، هناك قيمة عميقة في الإطار المنضبط.

 

الروائي والناقد البريطاني جورج أورويل حين كتب “1984” لم يكن يحطم اللغة، بل استخدم أدواتها بعناية لفضح آليات الرقابة. لم يخرج من “الصندوق”، بل فضح “الصندوق” من داخله.

وفي الفلسفة، يقول الفيلسوف الألماني جورج هيغل إن التناقض ليس نفيًا بل شرطًا للتجاوز. التفكير الحقيقي يبدأ من داخل الإطار، لا من الفراغ. فالخروج من “الصندوق” دون وعي بمحتواه، ليس إبداعًا، بل هروبٌ بلا وِجهة.

وهنا تبرز أهمية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي، الذي لم يُجرّد شخصياته من قيود الواقع بل جعلها تتصارع داخل “صناديق” الأخلاق والدين والندم. في “رسائل من تحت الأرض”، عبّر عن وعيٍ حادّ بحدود الحرية، وسخر من فكرة الإنسان العقلاني المُجرد. كتب من داخل “الصندوق الوجودي”، لكنه جعل جدرانه تهتز بمرارة التساؤل.

 

التفكير داخل “الصندوق” في الحياة اليومية: الطاعة القسرية أم الاختيار الآمن؟

في المؤسسات، تُدرَّب العقول على الانضباط، لا على التفكير الحر. وفي التربية، يُكافَأ من يُجيد “الحفظ” لا من يجرؤ على “السؤال”. من هنا تنشأ “العقول الصندوقيّة”، التي ترى في كل جديد تهديدًا، وفي كل شذوذ خطرًا.

ترى المفكرة الألمانية حنة آرندت أن الطاعة العمياء ليست مجرد التزام، بل خطر على “الإنسانوية” نفسها. في تحليلها لمحاكمة النازي أدولف آيخمان، تبيّن أن الشرّ لا ينشأ فقط من نوايا خبيثة، بل من العقول التي ترفض أن تفكّر خارج ما أُمِرَت به.

فالتفكير داخل “الصندوق” لا يكون دائمًا عن ضعف، بل أحيانًا عن كسل أخلاقي.

 

الفرق بين “الصندوق” و”النظام”

علينا أن نميّز بين “الصندوق” و”النظام”. الأول قد يكون قيدًا غير مرئي، يُعيد إنتاج نفسه خلسة. أما الثاني فهو نظام مفتوح على إمكان التجاوز. يقول ألبرت آينشتاين: “لا يمكنك حلّ المشكلات بنفس طريقة التفكير التي أنشأتها”.

هذا يعني أن التفكير داخل الصندوق قد يصل إلى حدوده، ويُصبح جزءًا من المشكلة. حينها، لا بد من الانفصال عنه لا ازدرائه، من أجل تخيّل ما هو مختلف.

لكنّ الفكرة ليست في الرفض التلقائي، بل في معرفة متى يكون “الصندوق” أداة، ومتى يكون سجنًا.

 

العصر الرقمي و”صناديق” جديدة

في عصر الخوارزميات، تخلق وسائل التواصل “صناديق ذكية”: تُغذّيك بما يُشبهك، تُعزّز آراءك، وتخنق اختلافك. التفكير داخل هذه “الصناديق” لم يعد اختيارًا، بل نتيجة لتصميم تقني يدفعك نحو “القطيع”.

لم تعد المسألة مسألة راحة، بل تَوجّه قسري نحو الانغلاق. كلّما ازداد الفرد اتصاله، ضاق أفقه. فـ”الصندوق” المعاصر ليس خشبيًّا ولا عقائديًّا فقط، بل رقمي وخفيّ.

وعليه، فليكن “الصندوق” بداية لا نهاية

الغاية ليست تمجيد “الخروج” ولا شيطنة “الدّاخل”، بل السير على الحافة: أن تفكّر داخل “الصندوق” حين يكون الإطار مُنتِجًا، وأن تخرج منه حين يتحوّل إلى قيد.

إنّ أخطر ما في التفكير داخل “الصندوق” ليس ضيق الأفق، بل الاعتقاد بأن لا “صندوق” هناك أصلًا.

فلنضع “صناديقنا” على الطاولة، ونفتحها، ونواجه محتواها، بدلًا من أن نعيش داخلها معتقدين أننا أحرار.

للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط

https://chat.whatsapp.com/Hyf3sXkneR09LaA2iMVWp3

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img