السبت, ديسمبر 6, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةشريط الاحداثحين "رُجم" زياد الرحباني.. ورحل قبل المشهد الأخير!

حين “رُجم” زياد الرحباني.. ورحل قبل المشهد الأخير!

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

| زينة أرزوني |

في لبنان، كلما تأزّم الواقع السياسي، كنا نبحث عن مسرحية لزياد الرحباني كما يبحث الغريق عن خشبة. نُعيد تشغيل المقاطع ذاتها التي حفظناها عن ظهر قلب، لا لنضحك، بل لنفهم. لأن زياد لم يكن يكتب “كوميديا”، بل تنبّأ بأيامنا هذه، يوم كان البلد لا يزال يتظاهر بالحياة.

نحن جيلٌ فتح عينيه على ضحكة تنبعث من مذياع، لا نفهم سببها تماماً، لكنّها كانت تُفرِح أهالينا، فنفرح. كانت رائحة القهوة تختلط بصوت فيروز كل صباح، وكأن الوطن لا ينهض إلا على صوتها. ثم كبرنا. فاكتشفنا أن الضحك الذي كان يملأ بيتنا لم يكن من القلب، بل ضحكاً مبللاً بالخوف، بالسخرية، والعجز.

ثم جاء زياد، لنختبر معه أنه لم يكن مسرحيًا فقط. كان مُحللًا سياسيًا بقناع ساخر، ومفجّراً ثقافياً بتوقيت موسيقي. كان الوحيد الذي قالها منذ عاقود: “هيدا فيلم أميركي طويل”. واليوم، بعدما سُرقت أموالنا من المصارف، وتحوّل البلد إلى بقعةٍ بلا سيادة ولا عدالة، نكتشف أن ما نعيشه ليس إلا مشهداً أخيراً من نصّ زياد، “شعبه لم يعد عنيداً”، ولكن للأسف رحل زياد قبل أن يُعرض هذا المشهد.

غريب كيف سمعنا مسرحياته مئات المرّات. نحفظ جُملاً كأنها صلوات: “نص الألف خمسمية”، “الحالة تعبانة يا ليلى”، “كيف بدي روح من الباشورة عالحمرا؟”. لكن، حين شاهدنا مسرحيتين صُوّرتا بأسوأ تقنيات، خرجنا من الصالة كمن حقق إنجازاً عظيماً. ليس لأننا رأينا مسرحية، بل لأننا لمسنا شيئاً من الحقيقة، كما هي، من دون ماكياج.

ابتسمنا، رغم أن الضحك بات عملة نادرة. أن ترى زياد لا يُقدَّم على خشبة، بل يُبَثّ كأنه “مادةً ممنوعة”، فهذا يُشبه لبناننا الحالي: نسخة مشوّهة عن نفسه.

رشيد أعقل منّا جميعاً

حين رُجم زياد لأنه قال إن والدته تحب السيّد حسن نصر الله، لم تكن المسألة مجرد تصريح. كانت إعلاناً عن جريمة فكرية: “يُمنع على الفنان أن يكون حُراً”. زياد، الذي لطالما ساند خط المقاومة، لم يتورط في الشعارات، بل كان يرى ببصيرته أن لبنان لا يمكن أن يُحمى إلا من الداخل، لا من السفارات.

أما اليوم، فترى الذين شتموه يوماً يكتبون في رثائه الفكري، وكأنهم اكتشفوا للتو أنه عبقري. ينسون أن زياد قالها منذ زمن: “رشيد المجنون” أعقل منكم جميعًا. “رشيد”، هذا الذي لم يكن يملك شهادةً ولا نفوذاً، رأى بعينٍ لم ترها طبقة النخبة. هو ذاته الذي كان يتحدّث مع نفسه، أكثر من تحدثه معنا، لأنه لا يرى فينا من يفهم.

لبنان الذي يشبه “نُزُل”

لبنان عند زياد لم يكن وطناً، بل “نُزُل”… بلا “سرور”. مجموعة غرف تتكدّس فيها الطوائف والتناقضات والتنازلات. النُزُل لا يُبنى عليه مستقبل. هو مكان مؤقت، والإقامة فيه خطرٌ طويل الأمد.

“مسيو أنطوان” كان يحسب “نُصّ كبسة”، ونحن اليوم نحسب الكيلوغرام بالدولار، والدواء بالواسطة، والكهرباء بالبطارية. في “بالنسبة لبكرا شو؟”، رامز لم يعرف كيف ينتقل من الباشورة إلى الحمرا. اليوم، ما زلنا لا نعرف، ليس لأن المسافة طويلة، بل لأن الطائفة لا تزال تضع جداراً بين الشارعين.

من يبيع أكثر؟

زياد فضح تجارة اللبناني مع الخارج. الرجل الذي يبيع النساء، والقصائد، والأحذية… بلا خجل. واليوم، نبيع كل شيء: نبيع الغاز مقابل التبعية، والسيادة مقابل قرض، والكرامة مقابل تغريدة من سفير.

حتى “ثريا”، قد تكون اعتزلت أقدم مهنة في التاريخ، لأن السوق اليوم مشغول بما هو أبشع. لم يعد الـ”SEX” في مسرحية زياد بين مختار وصبيّة أمراً صادماً، بعدما تحوّل اغتصاب الأحلام إلى سياسة دولة.

زياد ليس “نوستالجيا”

المؤلم في تجربة زياد الرحباني أنه لم يكن رجلاً من الماضي، بل مرآةً للمستقبل. واليوم، نعود إليه ليس لنغني، بل لنفهم. نُعيد فتح أرشيفه وكأنّه أرشيف مخابرات وطني، يحتوي على كل التفاصيل التي حاولوا إخفاءها.

ليس علينا أن نكرّم زياد أو نبكي على خسارته. بل أن نقرأه. لا نريده تمثالاً في ذكرى، بل قنبلة فكرية تُرمى كلّما أراد هذا النظام أن يغطّي فشله.

لأن الحقيقة هي الآتية: نحن لا نعيش في لبنان، بل في مسرحية كتبها زياد… وانتهى المشهد الأخير، ولا أحد يصفّق…

للانضمام إلى مجموعة “الجريدة” إضغط على الرابط

https://chat.whatsapp.com/Ehc1NGyVORWJ7prOx0lUgD

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img