| وائل طالب |
درسنا منذ صغرنا عن مجاعات ضربت مدنًا وقرى بأكملها. وكنا، كما أساتذتنا، نُرجع الأسباب دائمًا إلى عوامل خارجة عن إرادة الإنسان: جغرافيا قاسية، مناخ لا يرحم، وانعدام في المقومات. أما أن يُتعمّد تجويع الناس؟ فهذا ما كان يبدو مستحيلًا. حتى أشد المجرمين، كنا نظن أن ضميره سيوقظه، وإنسانيته ستمنعه من الوصول إلى هذا الحد.
لكن، ونحن نعبر ربع القرن الحادي والعشرين، لا تزال المجاعة تقتل، لا بفعل الطبيعة، بل بتخطيط بشري ممنهج. نراها في أفريقيا، ونُبرر كعادتنا: المناخ الحادّ، نقص المياه، صعوبة الإمداد… لكن الحقيقة التي نتجنب النظر فيها، أن المستعمر القديم لا يزال حاضرًا، بل أكثر قسوة. ومع ذلك، نغض الطرف، فـ”نحن بحاجة إلى الغرب”.
أما غزة، فلمن لا يعرف، فإن أبناءها ـ من الأطفال إلى الشيوخ، من النساء إلى الرجال ـ يُقتَلون تجويعًا، عمدًا، وعلى مرأى من العالم أجمع. أمّا المجرم؟ فطليق، يتباهى بفعلته، ويوزع “جوائز السلام” الزائفة على من يسانده في جرائمه. يجول في العواصم دون خوف، يضع الشروط، ويُملي القرارات على أقوى قادة الأرض.
لمن يلوم أهل غزة على “طوفان الأقصى”، ليتذكّر: هذه الحرب هي الخامسة، ولم يكن هناك “طوفان” في سابقاتها. إنها ليست ردة فعل، بل جزء من مشروع صهيوني واضح المعالم: دولة يهودية خالصة، فوق أنقاض شعبٍ كامل، وبدعم مشاريع اقتصادية ونفطية، ليست عابرة للقارات فقط، بل للأخلاق والضمائر.
هل أصبح التجويع سلاحاً مشروعًا؟ هل يبرّره التأخير في توقيع صفقة هنا، أو تقاطع مصالح هناك؟ في زمنٍ يُسجن فيه من يظلم حيوانًا، ما زال يُسمح لـ”إسرائيل” أن تفعل ما تشاء بشعب عربي أعزل، مسلم ومسيحي، بلا حسيب ولا رقيب!
بالمقابل، ماذا فعلت غزة وأهلها؟ لماذا كل هذا الحقد؟ ليس فقط من العدو، بل حتى من أشقائها العرب!
أليس بين مليار ونصف المليار مسلم، أو مئات ملايين العرب، رجل واحد قادر على إنقاذ ما تبقى من شعب غزة؟ هل كان ذنب غزة أنها أخّرت مشاريع الغاز والتطبيع الصهيو-عربي؟
ليته كان طوفان بحرٍ أو نهرٍ أغرقها مرةً واحدة، لكان موتًا أهون من عذاب طويل، وبكاء لا ينقطع، وخذلان لا يُنسى.
ليت الله جعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل.
لم يكن ليبكي أحد أحبائه، ولما بقي من يبكينا كلّ يوم ويحفر صورته في أذهاننا وقلوبنا.
لماذا غزة؟ لأنها رمز القوة، هدف لكل الضعفاء. ولو قدّر الله أن تسقط، سنسقط معها جميعًا وسنصبح عبيداً عند الصهاينة، ليس فقط في فلسطين، بل في المشرق والمغرب العربي، لأن سقوط غزة، هو سقوط آخر معاقل الكرامة.
لماذا كل هذه القسوة يا غزة؟ لماذا تزرعين في قلوبنا صوراً نخاف حتى أن نتذكّرها؟ لماذا تُرينا كم نحن منهزمون؟ لماذا تريدينا أن نُسأل يوم القيامة: ماذا فعلنا لغزة وأهل غزة؟
اليوم، بتنا في موقف مخزٍ، رفعتي عنّا يا غزّة صفة الرجال، وأسقطتي عن الدول المجاورة صفة الجيرة والأخوة. جرّدتينا من كلّ صفات العروبة، وطبعتي وصمة عار على التاريخ الذي سيُكتب عنا.
جعلتينا نواجه حقيقتنا المرّة: نحن أمة بلا عروبة، بلا رجولة، بلا كرامة…
ألم يكن أهون أن تموتوا يا أهل غزة بصمت؟ أن ترحلوا من دون ضجيج؟ ألا تدركوا أنكم وحيدون في هذا العالم؟ لا إخوة، لا جيران، ولا حتى من يحمل صفات الإنسان؟!
لقد أخطأتم في التوقيت يا أهل غزة.
نحن لسنا في زمن المسيح عيسى عليه السلام الذي يُحيي الموتى بإذن ربه، و يدافع عن الحق وينشر السلام.
لقد أخطأتم في التوقيت يا أهل غزة.
نحن لسنا في زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد صادق اليوم بيننا، لا يوجد أمين، ولا رحيم، ولا صاحب حكمة، ولا شجاع، ولا شخص عادل بيننا.
لقد أخطأتم في التوقيت يا أهل غزة.
قد مات عمر، مات من كان يخاف أن يُسأل عن حال الحيوانات وطريق سيرها، مات من أمر بنثر القمح على رؤوس الجبال كي لا تجوع الطيور في بلاد المسلمين.
ماذا تنتظرون؟ ومَن تنتظرون؟ لا أحد على هذه الأرض يساوي دمعة طفل جائع منكم، أو صرخة أم شهيد، أو دعوة جريح من أهل غزة.
سامحكم الله يا أهل غزة على ما فعلتم بنا وبأمتنا العربية، أصبحنا نكره هذا العالم لأجلكم.
ليتكم متم بسلام، لنكون بلا كوابيس.
عذرًا يا أهل غزة، نحن العاجزون، الضعفاء، المنكسرون… وأنتم الأبطال، الأقوياء، الشرفاء.
بالله عليكم، عندما تنتصرون ـ وستنتصرون بإذن الله ـ أنقذونا من عجزنا.
أما أنتم.. يا من تبررون، وتسوّغون، وتدافعون وتهادنون… فأنتم شركاء في الجريمة، حتى وإن اكتفيتم بالكلام أو الصمت،
فلا سامحكم الله يوماً ولا عفا عنكم.
لم يعد لديك أحد يا غزة.
لكم الله يا أهل غزة.
والله خير الحافظين…














