| فيصل طالب | (*)
أَنسير نحن في الزمن، أم هو الذي يسير، ونحن قابعون في محطات الانتظار والترقب؟! نحن ندرك أن شيئاً يمضي فينا وبنا… نتعثّر بالماضي كلمّا تسلّل إلى أسماعنا صدى الضحكات البعيدة، ونغفو على مخاض الآتي من رحم الأحلام، لعلّ الليل يلد ما لم يأتِ به النهار، ثمّ ندرك أنّنا كنّا فقط نحتمي من برد الخيبة بغطاء الرجاء.
ربما نحن والزمن رفيقان في مسار واحد، كأننا ظلّه العاجز عن الانفصال. هو يمضي ونحن نمضي فيه، كما يمضي النهر في مجراه، من غير أن يملك الرجوع إلى الوراء أو تغيير الاتجاه. إحساسنا به ليس بطبيعة الحال واحداً؛ إذ قد تساوي لحظة واحدة منه عمراً، وعام كامل قد يمضي كلمح البصر. تارةً ندركه سريعاً كالبرق العابر، وطوراً بطيئاً كالحزن الممدّد على سريرالليالي. تُرى هل يقاس الزمن بعدد الأيام أم بنبضات القلب السارية في شرايين الشعور بالوجود الحيّ ؟!
في حضرة هذا الزمن تبدو الغربة فيه أثقل خطاه، وأعمق الأحاسيس به، وأمرّ شيء فيه؛ وهي تعصر أفئدتنا كلّما أوغلنا في معانقة الماضي، فيشتدّ وقعها الموحش في النفوس المسافرة من إرث الحنين إلى وجهات معلّقة على حافة الذكريات التي تجرّ ظلالها إلى عالم مغمور بالضباب. لا صوت في أوديته غير رجع الصدى، ولا ضوء في سمائه إِلَّا ما تسرّب من شقوق الأرواح المتكسّرة، ولا رفيق في وحدته غير النشيج المنساب من قلوب حائرة، كأنين طفل أضاع أمّه وسط الزّحام من غير أن يعثر عليها.
هو زمان نفتش فيه عمّا يشبه أرواحنا، ونشتاق فيه إلى دفء ألفناه، ثم صار برداً وافداً من صقيع النكران، كأنه خارج للتوّ من صدر غيمة متعبة بحمل السنين.
الغربة في هذا الزمان هي الخروج عن الإيقاع الذي يفرضه العالم من حولنا، والبحث عن ذواتنا بين طيّات الأيام من غير أن نجدها، واللهاث وراء أحلام مقطوعة لا تقبل الاستئناف، والسعي إلى ما كنّا نتمناه لنكتشف أنّه قد غادر من غير رجعة.
في هذا الزمان ليست الأصوات دائماً كلمات ومعاني؛ إذ قد يكون صوت الصمت أنفذ من كل الضجيج الذي يحاصرنا، لأنّه صاف كالماء النمير. هو المأوى حين لا يعود للكلمات معنى، والحضن الجامع لشتات النفس، وفسحة الصدق وسط مضائق الزّيف، والملاذ الآمن للروح كي تعود إلى ذاتها.
لا حيلة لنا في هذا الزمان إلّا أن نكون فيه، لكن ليس منه، لأننا نعجزعن ارتداء أقنعته وخلعها أمام مرايا أنفسنا، وأداء أدوار على مسرحه لا تشبهنا، وارتداء لبوسَ مستعار لا نرتاح فيه ولا يناسبنا، فنضيع في غياهب التصدّع، لأنّ ما ليس من نسيج الروح يخذل المرء حين تمتحنه الحياة، وأن التنكّر للذات التباس في زحام الضباب، فلا هي تبقى كما كانت، ولا هي تستطيع أن تكون ما تريد، بل تتبعثر أوراقها في مهبّ البحث عن جلد آخر لتدخل فيه، بعيداً من تطلّع الروح إلى دفء الألفة، ونبل الكلمة، وعمق الإحساس، وعفو البساطة، وفصاحة الحقيقة.
ما أحنّ الضوء حين كان خافتاً هادئاً، وما أقسى هذا التوهّج الصاخب الكاذب، وما أبهتَ تلك النسخة الشاحبة من ظلال مرتجفة لروح مرتعشة من برد الصمت على حواف الفراغ، وما أصعب ان ترى بقاياك تمشي وأنت غائب فيك، وما أحزن هذا التجلّي لروح تنكرت بزيّ الوجوه التي لا تعرفها، وما أمرّ الوحدة التي تسكن روحاً مزدحمة بالناس وخالية منك، وما أطهر الدمع الذي يسيل على وجنتين متعبتين، ولا يخشى إن يلمحه الآخرون، لأن الله يراه قبل البشر.
(*) المدير العام السابق لوزارة الثقافة















