| جورج علم |
لعب الإقتصاد دوراً حاسماً في التهدئة. تحوّلت المواجهة ما بين “إسرائيل” وإيران إلى حرب إستنزاف مكلفة. وظهرت رغبة مشتركة على ضرورة الحدّ من الخسائر بحجة أن الحرب حققت أهدافها، ونال كلّ طرف ما يريد.
العامل الإقتصادي مهم، حجم الدمار كبير، والخسائر تجاوزت التوقعات، والإحصاءات الأوليّة تسجّل أرقاماً تحاكي تريليونات الدولارات، وهذا وحده كافٍ لإعادة النظر في المشروع التدميري حرصاً على البقية الباقية من مقومات الحياة، والصمود، والإستمرار.
هناك عوامل أخرى ـ إلى جانب الإقتصاد ـ فعلت فعلها، وشكّلت عنصر ضغط لوقف القتال، إلاّ أن المواجهة العسكريّة إذا ما إنتهت، وتمّ التقيد فعلاً بإتفاق وقف النار، فإن مواجهة سياسيّة أكثر حدّة ستندلع على طول “خطوط التماس” الداخلية لكلّ من “إسرائيل” وإيران.
لا يمكن لبنيامين نتنياهو أن يستمر في رئاسة الحكومة بعد هذا المشوار الطويل مع المغامرات الحبلى بالكوارث. فاتورة غزّة باهظة، لم يحقّق ما يريد. لم يقضِ على “حماس”، فيما النزف المادي والمعنوي مستمر، والإدانة الدوليّة بدأت تترجم خطوات عمليّة، ومن غير الجائز أن يقبل بوقف النار مع إيران، فيما يضاعف تنكيله بالقطاع!
حتى إشارة النصر التي يرفعها إحتفاء بتدمير النووي الإيراني، لن توفّر له ضمانة الإستمرار. بدأ يذوب الثلج لتظهر كوارث المرج. أصيب الإقتصاد الإسرائيلي إصابات بالغة. فاق حجم الدمار كل التوقعات. إنهارت مقومات الثقة بالمؤسسة العسكريّة والسياسيّة، وفقد المواطن شهيّة الإعتداد بالنفس، بعدما سقطت الأقنعة وإنكشف الخداع ، ومعه الوعود الفارغة.
جرت محاولة في الكنيست للدعوة إلى إنتخابات مبكرة، لم تنجح بسبب تزامنها مع بدء العدوان على إيران. لكنها قد تتكرّر في القريب العاجل لإختيار حكومة جديدة قادرة على بناء جسور الثقة المنهارة في الداخل، ومع المحيط القريب والبعيد.
وفي طهران حسابات جارية بدأت سياسيّاً منذ غياب الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، عن المسرح، وتفاقمت تعقيداً بعد غياب قيادات بارزة في “الحرس الثوري”، و”البرنامج النووي”. لا يكفي سدّ الفراغ بوجوه جديدة، قد يحتاج الأمر إلى “أجهزة طرد” قادرة على إنتاج ديناميّة حديثة متطوّرة تحاكي التحديات الإقتصاديّة، والإجتماعيّة، والمعيشيّة المتفاقمة.
لقد خسرت طهران مرتين: النووي، والأقليم. وخسرت مع هذه الخسارة مئات المليارات من الدولارات، سواء تلك التي أنفقت على التخصيب والمفاعلات، أو تلك التي أهدرت على نشاطات “الأذرع”.
من يعوّض؟ وكيف يكون؟ هل من اللحم الحيّ، ورفع منسوب الضرائب؟ أم عن طريق الصفقات… صفقة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، تحت شعار “منع الإعتداء”. صفقة مع المجتمع الدولي للإفراج عن الأموال المحتجزة. صفقة مع صندوق النقد الدولي ـ إذا لم يكن هناك من مانع ديني عقائدي ـ لإعادة إعمار ما تهدم. وصفقة مع دول مجلس التعاون الخليجي لإعادة ترميم جسور حسن الجوار.
يؤكد الأميركي، بالتنسيق مع الإسرائيلي، على أمور ثلاثة:
• الرهان على إسقاط النظام من الداخل.
• وضع النووي ضمن سلّة من الشروط، أبرزها عدم الإفلات من المراقبة والمتابعة.
• ربط مسيرة إعادة الإعمار بدفتر من الشروط الأميركيّة ـ الدوليّة، خصوصاً ما يتعلّق بالمقرات النووية، والعسكريّة المدمّرة.
تبقى إشارة لافتة مفادها أن الرئيس ترامب حفظ بعض ماء الوجه للنظام في إيران، عندما رفض تغييره بالقوة، ومنع بنيامين نتنياهو ووزير حربه من القيام بمحاولة إغتيال المرشد. كما بادله النظام بالمثل عندما أبلغه مسبقاً بعمليّة قصف قاعدة “العديد” في قطر، ومنحه دفعاً معنويّاً للحصول على جائزة “نوبل” للسلام، عندما لبّى دعوته لوقف إطلاق النار مع تل أبيب.
إلاّ أن ترامب، الذي يسوّق نفسه كداعيّة للسلام، ويسعى جاهداً للحصول على “نوبل”، عليه أن يكمل المهمّة، ويرغم حليفه نتنياهو على وقف الحرب على غزّة، ويجد المخرج الملائم للوضع المعقّد في أوكرانيا، خصوصاً بعدما سلّفه الرئيس فلاديمير بوتين الكثير من المبادرات والمواقف التي تجنّب واشنطن الإنزلاق في الحرب.
إن ما أعلنه عن وقف إطلاق النار بين إيران و”إسرائيل”، إنما يأتي إستناداً إلى مبادرة صمّمها الرئيس الروسي، وأفسح المجال أمام الرئيس الأميركي ليجني منها “شهد العسل”.
قبل ساعات من إعلان وقف النار، كان بوتين منشغلاً بإستقبال وزيرخارجيّة إيران عبّاس عراقجي، وإستفاض البحث، ووُضعت أولويات، وصِيغت مخارج، وكانت موسكو على خط مفتوح مع تل أبيب لمناقشة التفاصيل، كما كانت على تواصل مع إدارة الرئيس ترامب لحملها على تدوير بعض الزوايا الحادة داخل الحكومة الإسرائيليّة.
بإختصار، بوتين خطط، ترامب نفّذ، وإمتثل الإسرائيلي والإيراني، ولو بتدرج، وعلى قاعدة خطوة مقابل خطوة.
ضَمِن بوتين بذلك إستمراريّة الإتفاق الإستراتيجي مع طهران. وضَمِن إستمراريّة تدفق أربعة ملايين ليتر من الديزل يوميّاً إلى حليفه الصيني. وضَمِن إستمرار خطّ التحالف سالكاً وآمناً ما بين موسكو وطهران وبكين.
ويبقى السؤال: هل من حلّ متفاهم بشأنه مع نظيره الأميركي حول أوكرانيا لوقف القتال؟
ربما يحمل القادم من الأيام الجواب. لكن من يراقب الفضاء الإعلامي يشعر بالمدى الذي بلغته “البروباغندا” المتداولة، والتي تحاول أن تقنع الراي العام بأن كلّ من شارك بالحرب ربح!… أما ماذا ربح؟ وكيف؟ ولماذا؟… فالأمر قد يحتاج إلى قارئة فنجان!














