| جورج علم |
ما بين جنائن دجلة والفرات، تواعد الزمان مع المكان لجمع الشمل العربي، في زمن الإندثار والتفلّت.
تستيقظ بغداد، بعد ليل طويل من الكوابيس المزعجة. تفرك عينيها مع طلوع فجر جديد، لترى قادة العرب في ضيافتها، بين خمائلها وشمائلها يتهامسون ويتشاورون، ويزرعون في رياضها قرارات نابعة من قناعات، تحبّر بنودها مطالب محقّة، لبلوغ الإستقرار والإزدهار.
قمّة عربيّة في بغداد!
يكفي وحده العنوان، كونه يختصر المبتدأ والخبر، حول الحاضر والمستقبل. فالوضع مصيريّ، ولا بدّ من تلمّس معالم الطريق تجنباً للمنزلقات القاتلة، أو التوغّل في متاهات يصعب الخروج منها.
ماذا يعني قمّة عربيّة في بغداد؟
هذا يعني أن العراق عاد إلى الحضن العربي، بعد سفر طويل، ومشوار عليل. ويعني عودة العرب إلى من قال يوماً:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وليس بالقليل، أن تحصل هذه العودة، وهلال الشرق الأوسط يتأرجح ما بين خسوف وكسوف في زمن التمدد الإسرائيلي، والتوسّع الأميركي، والنهم الإقليمي.
يكفي الحضور العربي، بمن حضر، إلى عاصمة العبّاسيّين، لتلاوة فعل إلتزام بالهوية، والقضيّة.
قد يكون المسرح مهيئاً لعرض الكثير من فصول الإنتقاد، والتجريح. فالمجال مفتوح أمام السجالات، والمزايدات، والشعبويات، وليس من رادع، أو مانع. لكن للحقيقة مكان يجب التوقف في محرابها، والتمعّن بأبعادها المسلوخة من أرض الواقع. من التحديات التي تحاكي المستقبل والمصير، وترسم علامات الإستفهام حول معالم الشرق الأوسط الجديد، أو يالطا الشرق الأوسط.
البعد الأول: أن قمة بغداد تعني أن للعرب حيثيّة، وجامعة مؤسساتيّة، وحضور على المستوى الإقليمي، والدولي. في ظلّ التكتلات الكبرى الناشئة، أو التي هي قيد النشوء.
قد تقاس الأمور في عالمنا الحاضر، بمعايير القوّة، والفعاليّة، والقدرة على المواجهة، وفرض القرار والخيار. وهذه من السرديات المتداولة في عصرنا هذا، عصر الجوائح الكبرى السارية المفعول، في زمن إنفلات الغرائز.
وليس للعرب ـ أو قد لا يكون ـ لهم الدور والمكان في الصفوف الأماميّة في حضرة العولمة المتفلّتة. ولكن بيضة القبّان هنا، ولهم الحضور اللافت، والدور المؤثر عندما تكتمل المحاصيل، وتبدأ مرحلة فرز النتائج.
وقد تستطيع القوى العظمى التلويح بقرار، والإشارة إلى نهج، أو خيار، ولكنها لا تستطيع أن تضمن النجاح والإستمراريّة إذا كان للعرب رأي مغاير، أو حسابات أخرى تقتضيها مصالحهم. قد لا يكونوا في طليعة الصفوف الأماميّة حيث تكثر الفلاشات والأضواء، ولكنهم حتماً في الصفوف التي يتخمّر فيها القرار، قبل الإصدار.
البعد الثاني: لا يملك العرب قنبلة نوويّة، ولا صاروخاً باليستيّاً عابراً للقارات، ولا راداراً عملاقاً يسبح في الفضاء الخارجي، ويعطّل الإحداثيات التقنيّة العالية الجودة والدقة. ولكنهم يملكون من الإمكانات المادية والمعنويّة ما يجعلهم قبلة أنظار، ومثار إهتمام الاخرين الأقوياء الذين يقفون في صفّ طويل، ينتظرون فرصة سانحة للحوار والإستثمار.
ربما لا يملك العرب المبادرة على إعتماد مسار تصعيدي يواجه ذاك الذي يغزو غزّة، ويحوّل رياض الأطفال إلى مقابر جماعيّة. لكن، ومهما تآلبت النوائب، وإشتدّت الأعاصير، لا يمكن لأحد، ولا حتى الولايات المتحدة، ولا الكيان الغاصب، من أن يأخذ غزّة عنوة إلى حيث يريد. هناك تاريخ وجغرافيا، وقوانين، وشرائع. وهناك ممانعة عربية، وتعاطف دولي. والقضيّة الحق لها أهلها وأصحابها، ولا يموت حقّ وراءه مطالب!
البعد الثالث: لا يملك العرب البلسم الشافي الكافي لبلسمة جراح ليبيا، والسودان، وسائر البلدان النازفة على الشرفة العربيّة، فالأزمات متناسلة، ويسعى أرباب المصالح الكبرى إلى تأجيج النار، ليتمددّ الحريق. هناك مآرب كبرى تسعى إليها دول، وأنظمة مقتدرة، لتوسيع رقعة مصالحها، وزيادة أسواقها الإستثماريّة، خصوصاً في هذه المنطقة الغنيّة بالذهب الأسود.
لكن بالمقابل، لا يمكن الرهان على أن الأرض ما عادت تعرف أهلها، وقد أصبحت داشرة. صحيح أن الإنهيارات متواصلة، والنكبات متناسلة، لكن الإصرار مستمر للبحث عن الإبرة والخيط، وسط أكوام المستحيلات، لحياكة سترة الإنقاذ.
ما كان يؤمل من قمة بغداد أن تغيّر مسار الإعصار، ولا أن تمدّ قراراتها بأمصال القدرة على التنفيذ الفوري، لكنها إنعقدت في زمن التحولات الكبرى، والتحديات المصيريّة، لتؤكد على حقيقتين:
الأولى: لا شرق أوسط جديد من دون العرب، رغم أن الحسابات الجارية من قبل البعض تقول بأن هذا الشرق الجديد، إنما تتنافس على رسم معالمه أمبرطوريات ثلاث: “الترامبيّة ـ الأميركيّة”، و”الإيرانيّة ـ الفارسيّة”، و”التركيّة ـ العثمانيّة”، بالإضافة إلى رابعة “مستحدثة، أو يحاولون إستحداثها” وهي “العنصريّة ـ الإسرائيليّة”.
الثانية: لا سلام، ولا وئام في هذا الشرق الأوسط الجديد من دون عدالة، وحقوق، ودولة فلسطينيّة، وحق تقرير المصير.
إن حلّ الدولتين، الذي تنادي به أرفع مرجعيات دوليّة، وجعل القدس الشرقيّة عاصمة لدولة فلسطين، هو السكّة الطبيعيّة التي لا بدّ من أن يسلكها قطار السلام للوصول إلى محطة الإستقرار، والإعمار، والإزدهار…
ويبقى في بغداد “منّ وسلوى”، رغم المتغيّرات المتسارعة، يمكن توزيعها إحتفاء بعودة العرب إليها، وعودتها إلى الحضن العربي.
وقديماً قيل: كل الطرق تؤدي إلى الطاحونة، مهما كثرت الشعاب، وتغيّرت المسالك… إلاّ إذا كان الكبار المتهافتون على صياغة “يالطا جديدة”، لشرق أوسط جيد، يريدون طنيناً… لا مطحنة وطحينا!