كشف التحقيق الذي أجرته وكالة “رويترز” أن الطائرة التي تولّت نقل الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وأمواله وممتلكاته الثمينة ومستندات ووثائق سرية من دمشق، يملكها رجل أعمال لبناني، وهي مسجّلة في دولة أفريقية.
ونشرت وكالة “رويترز” تحقيقاً كاملاً، استند إلى محادثات مع عدد من المصادر، من بينهم 14 مسؤولاً سورياً.
وأوضحت الوكالة أن ياسر إبراهيم، المستشار الاقتصادي البارز للأسد، استأجر طائرة خاصة للعملية، وهي من طراز “إمبراير ليجاسي 600″ ذات 13 مقعداً، قد قامت بأربع رحلات من سوريا إلى الإمارات العربية المتحدة خلال الـ48 ساعة الأخيرة من وجود النظام، في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي 2024.
وكان إبراهيم، الرجل الذي يقف وراء الجسر الجوي لأصول الأسد، شخصية رئيسية في إنشاء شبكة من الكيانات التجارية، وكثير منها شركات وهمية، والتي سمحت للديكتاتور السوري بالسيطرة على أجزاء كبيرة من اقتصاد بلاده، وبحسب بيانات تتبع الرحلات الجوية، قامت الطائرة بثلاث رحلات ذهاباً وإياباً إلى مطار دمشق. وفي الثامن من ديسمبر، يوم سقوط النظام ، انطلقت رحلة رابعة من قاعدة حميميم الروسية قرب اللاذقية، وهي نفس القاعدة التي انطلق منها الأسد في وقت لاحق من ذلك اليوم، في رحلة أخرى، إلى روسيا التي منحته اللجوء السياسي.
وقال ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية لنظام الأسد لـ”رويترز” إن الطائرة لم تكن محملة بحقائب غير مميزة تحتوي على مبالغ كبيرة من المال فحسب، بل كانت محملة أيضا بوثائق وأجهزة كمبيوتر محمولة وأقراص صلبة تحتوي على معلومات عن “المجموعة”، وهو الاسم الرمزي للأسد ورجاله لشبكة أعمال الديكتاتور التي شملت شركات الاتصالات والبنوك والعقارات والطاقة.
وقال مسؤول كبير في النظام السوري الجديد بقيادة الرئيس أحمد الشرع لوكالة “رويترز” إنهم عازمون على استعادة السيطرة على الأموال العامة التي تم تهريبها إلى الخارج أثناء انهيار نظام الأسد، وقال المسؤول إن إعادة الأصول ستساعد في تخفيف العبء على الاقتصاد السوري، الذي يحاول الآن التعافي من سنوات من العقوبات ونقص حاد في العملات الأجنبية.
وبحسب التحقيق، بدأت عملية الطلعات الجوية في 6 ديسمبر، عندما كان المتمردون الجهاديون التابعون للجولاني، من تنظيم هيئة تحرير الشام، في طريقهم إلى دمشق. وعندما هبطت الطائرة الخاصة في مطار المدينة الدولي، وصلت مجموعة مكونة من 12 عنصراً من وحدة استخبارات القوات الجوية السورية وهي جهاز مركزي في جهاز القمع السياسي لنظام الأسد، إلى المطار بزي مموه لحراسة منطقة كبار الشخصيات والطرق المؤدية إلى المكان.
ووصلت إلى هناك أيضاً سيارات من الحرس الرئاسي، الوحدة المسؤولة عن أمن الأسد، في مركبات مدنية ذات نوافذ معتمة، وقال مسؤول سابق في الحرس الرئاسي لـ”رويترز” إن تورط هذه الوحدة في حد ذاته يشير إلى أن “الأسد أعطى الأمر” بعملية التهريب.
وأبلغ مدير أمن المطار، الجنرال غدير علي، طاقم الطائرة أن أفراد الاستخبارات العسكرية سيكونون مسؤولين عن التعامل مع الطائرة، وقال لهم “أنتم لم تروا هذه الطائرة”، بحسب التحقيق، وتشير “رويترز” إلى أن غدير علي كان يتلقى تعليماته مباشرة من القصر الرئاسي في دمشق.
وكانت وجهة الطائرة مطار الباطن في أبوظبي، وهو مطار مخصص لرجال الأعمال وكبار الشخصيات، ويتمتع بقواعد صارمة للخصوصية، وقال مصدر لوكالة “رويترز” إنه في كل مرة تهبط فيها طائرة في المطار، “كانت السيارات تقترب من الطائرة وتبقى لفترة قصيرة ثم تغادر، قبل إقلاع الطائرة مرة أخرى”.
وانطلقت الرحلتان الأوليتان من دمشق في السادس من ديسمبر، ووفقاً لمصدر استخباراتي سابق، فقد صعد على متنهما عدد من أعضاء الفريق الرئاسي وأقارب الأسد وبحسب المصدر، فقد تم تهريب لوحات ومنحوتات صغيرة أيضًا على متن الرحلة الثانية.
اختفى من الرادار وعاد للبث بعد 6 ساعات.
وفي السابع من ديسمبر، عادت الطائرة إلى دمشق عند الساعة الرابعة عصراً، وبعد ساعة أقلعت مرة أخرى إلى أبو ظبي، وهذه المرة محملة بحقائب مليئة بالنقود والأقراص الصلبة وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي تحتوي على معلومات حول شبكة أعمال الأسد.
وقال مسؤول الاستخبارات السابق وشخص آخر متورط في أنشطة الشبكة إن المعلومات تضمنت بيانات مختلفة عن أنشطتها، مثل السجلات التجارية لشركات وهمية في الخارج ومحاضر الاجتماعات.
وقال ضابط الاستخبارات السابق إنه قبل الرحلة الثالثة، وصلت سيارات تابعة لسفارة الإمارات في دمشق إلى منطقة كبار الشخصيات في المطار.
وفي الساعات الأولى من صباح الثامن من ديسمبر، كان المتمردون قد وصلوا بالفعل إلى دمشق، واضطر الأسد إلى الفرار إلى معقل العلويين في اللاذقية، في المنطقة الساحلية غربي سوريا.
وتوقفت الحركة في مطار دمشق بالطبع، وتوقفت الطائرة الخاصة التي أقلعت بعد منتصف الليل بقليل من أبو ظبي باتجاه سوريا عن إرسال بياناتها لمدة ست ساعات أثناء تحليقها فوق مدينة حمص (شمال دمشق)، وبحسب بيانات موقع تتبع الرحلات الجوية Flightradar24، ظهرت الطائرة عندما استأنفت البث، فوق حمص، وكانت بالفعل في طريق العودة إلى أبو ظبي.
و بحسب ضابط الاستخبارات السابق، فإن الطائرة خلال الفترة التي اختفت فيها عن الرادار، هبطت في قاعدة حميميم في اللاذقية.
وأظهرت صورة أقمار صناعية التقطتها شركة “بلانيت لابز” عند الساعة 09:11 صباحاً الطائرة على مدرج مطار حميميم. وتمكنت “رويترز” من التأكد من أن طائرة “إمبراير” الظاهرة في الصورة هي الطائرة صاحبة الرمز “سي5-إس.كيه.واي” بناء على حجمها وشكلها وبيانات تتبّع الرحلات الجوية. وتُظهر بيانات تتبع الرحلات الجوية أن هذه الطائرة كانت الطائرة الخاصة الوحيدة التي حلقت من سوريا وإليها في الفترة بين السادس والثامن من كانون الأول/ ديسمبر. وكان على متن الرحلة المغادرة من حميميم أحمد خليل خليل وهو مساعد مقرب من إبراهيم وناشط في شبكة الأسد، وفقاً لضابط المخابرات الجوية ومصدر شبكة إمبراطورية أعمال الأسد ومحادثة “الواتساب”. ويخضع خليل لعقوبات غربية لدعمه النظام السابق من خلال إدارة العديد من الشركات في سوريا وقيادتها.
ووفقاً لمصدر شبكة أعمال الأسد ورسائل “الواتساب” فقد وصل إلى القاعدة الروسية في سيارة مدرّعة وكان يحمل 500 ألف دولار نقداً.
وبحسب المصادر ذاتها فقد سحب خليل المبلغ قبل يومين من حساب في “بنك سورية الدولي الإسلامي”.
وذكر مصدر شبكة أعمال الأسد أن الحساب يخصّ “شركة البرج للاستثمار” ومقرها دمشق. ووفقاً لموقع “سيريا ريبورت” وهو منصة إلكترونية تحتوي على قاعدة بيانات للشركات جمعها خبراء في الشأن السوري وتنقل عن سجلات سورية رسمية تعود لعام 2018 فإن إبراهيم يملك 50 في المئة من الشركة.
ولم يردّ خليل على طلب للتعليق أُرسل عبر حسابه على “فايسبوك”. كما لم يرد “بنك سورية الدولي الإسلامي” و”شركة البرج” على رسائل البريد الإلكتروني التي طلبت التعليق.
وقال مصدر شبكة أعمال الأسد ومسؤول سابق في هيئة النقل الجوي السورية إنَّ طائرة إمبراير كانت تعمل بموجب “عقد إيجار لا يوفر الخدمات” أي يوفر بموجبه المالك الطائرة لكنّه لا يوفّر الطاقم أو الطيار أو الصيانة أو العمليات الأرضية أو التأمين.
ولم تتمكن “رويترز” من تحديد الجهة التي كانت تشغل الرحلات الجوية.
وذكر المصدر في شبكة أعمال الأسد أن إبراهيم وصل إلى أبوظبي في 11 كانون الأول/ ديسمبر. ورفض الرئيس السوري أحمد الشرع التعليق على هذه الطائرة في مقابلة مع “رويترز”.
وفيما يتعلق بالطائرة الخاصة المستخدمة في العملية، أفادت “رويترز” عن صلة لبنانية: وفقاً للتحقيق، تم استئجار الطائرة باستخدام طريقة “التأجير الجاف” – حيث تم تقديمها لنظام الأسد من دون طاقم للطيران بها أو صيانتها، واستأجر إبراهيم الطائرة من رجل أعمال لبناني يدعى محمد وهبة، ومن محادثات واتساب بين شركاء إبراهيم في العمل، حصلت عليها “رويترز”، وُصفت الطائرة بأنها “الطائرة اللبنانية”، وفي الأشهر التي سبقت انهيار النظام، أظهرت بيانات تتبع الرحلات الجوية أن الطائرة، التي كانت مسجلة باسم شركة في غامبيا، كانت متجهة أيضاً إلى روسيا.
ويمتلك وهبة شركة “فلاينج إيرلاين إف.زد.سي.أو”، المسجلة في المنطقة الحرة بدبي، وفقاً لملفه الشخصي على “لينكد إن”.
وفي نيسان/ أبريل 2024، نشر وهبة صوراً للطائرة “سي5-إس.كيه.واي” على “لينكد إن” مع تعليق “مرحبا”. وفي كانون الثاني/ يناير، كتب رجل الأعمال في منشور منفصل على “لينكد إن” أن الطائرة معروضة للبيع.
كانت الطائرة مسجلة في غامبيا باسم شركة محلية هي “فلاينغ إيرلاين”، اعتباراً من نيسان/ أبريل 2024. وتظهر سجلات تتبع الرحلات الجوية أنه في الأشهر التي سبقت سقوط الأسد، طارت الطائرة إلى روسيا.
ولم تتمكن “رويترز” من الوصول إلى مسؤول الاتصال المسجل لشركة “فلاينغ إيرلاين” في غامبيا وهو شيخ تيجان غالو.
ووفقاً للسجلات في غامبيا فشركة “فلاينغ إيرلاين” مملوكة بنسبة 30 في المئة لمواطن لبناني آخر هو أسامة وهبة، و70 في المئة للعراقي صفاء أحمد صالح.
وتظهر مواقع التواصل الاجتماعي أن لمحمد وهبة إبناً يدعى أسامة، ويعمل أيضاً في قطاع الطيران. لكن لم تتمكن “رويترز” من التأكّد ممّا إذا كان هو الرجل نفسه المسجل في سجلات غامبيا.
وفي اتصال مع “رويترز”، نفى محمد وهبة أيّ علاقة له برحلات “سي5-إس.كيه.واي” من وإلى سوريا، وقال لـ”رويترز” إنَّه لا يملك الطائرة، ولكنّه يستأجرها “أحياناً” من وسيط رفض الكشف عن إسمه. ولم يُجب على أسئلة حول ما إذا كان لابنه أيّ دور.
ولم يردّ أسامة وهبة على طلب للتعقيب. ولم تتمكّن “رويترز” من تحديد مكان صفاء أحمد صالح.














