| خضر طالب |
فتحت قضية اختلاس مديرة فرع جونية في “سيدروس بنك”، ملايين الدولارات، من أحد العملاء، “جرح” العلاقة “البائسة” بين المصارف والمودعين، على الرغم من أن المصرف المذكور نفى أي علاقة له بعملية الاختلاس التي حصلت مؤكداً أن مديرة الفرع “كانت تربطها علاقة صداقة وعلاقة شخصية وطيدة بأحد العملاء في المصرف، والتي بنتيجتها حصل تعامل بين الاثنين خارج نطاق المصرف”!
لكن.. كيف يمكن للمصارف، جميعها، أن تدافع عن نفسها في قضية اختلاس جماعي لأموال المودعين؟
وهل يمكن للمصارف أن تتبرأ من عملية الاختلاس الجماعية بحجة “العلاقة الشخصية الوطيدة” التي كانت قائمة بينها وبين المودعين؟!
طبعاً لا تملك المصارف اللبنانية جواباً واضحاً على هذا السؤال، إلا أنها ترمي المسؤولية على مصرف لبنان وعلى الدولة حصراً، على اعتبار أن المصارف استثمرت أموال المودعين في سندات الخزينة لدى مصرف لبنان لصالح الدولة التي صرفت أموال المودعين…
الرواية نفسها مستمرة منذ بدء الانهيار المالي في العام 2019، علماً أن “قانون الموجبات والعقود” في لبنان يحمّل المصارف المسؤولية الأساسية عن سوء التصرف بأموال المودعين، حيث تنص المادة 690 منه على أن “الإيداع عقد بمقتضاه يستلم الوديع من المودع شيئاً منقولاً ويلتزم حفظه وردّه”. كما تشير المادة 696 من هذا القانون إلى أنه “يجب على الوديع أن يسهر على صيانة الوديعة كما يسهر على صيانة أشيائه الخاصة”.
وفي ما يتعلق بمسؤولية الوديع، تنص المادة 700 من القانون على أنه “إذا استعمل الوديع الوديعة أو تصرّف فيها بلا إذن من المودع، كان مسؤولاً عن هلاكها أو تعيّبها ولو كان السبب فيهما حادث خارجي”.
تقرأ المصارف هذه المواد القانونية ” على طريقتها” كي تتهرّب من المسؤولية المباشرة التي تتحمّلها عن “ضياع” أموال المودعين، وبالتالي كي تتبرأ من الانهيار المالي.
والواقع أن الانهيار المالي الذي حصل في العام 2019، لم يكن وليد لحظة أو حدث مباشر، وإنما نتيجة سياسات متعاقبة أهدرت مليارات الدولارات، وتقاسم “أمراء الحرب” أموال الدولة في السلم، بعد أن أزالوا حواجزهم التي كانت تمارس الخوّات والجباية غير الشرعية، ونقلوا تلك الحواجز إلى داخل الدولة، حيث كانوا يحصلون على “خوّة” على كل مشروع تنفّذه الدولة!
بدأت تلك المرحلة في العام 1992، عندما أطلق الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورشة الإعمار بعد الحرب، وكان ينتظر تدفّق المساعدات العربية للبنان لإعادة إعمار ما هدمته الحرب في 15 سنة. إلا أن المساعدات كانت شحيحة، فلجأ إلى الاستدانة، وبفوائد عالية بلغت حدود 40 % على السندات، وهو ما فاقم حجم الدين العام.
كاد الانهيار المالي أن يحصل في العام 2000 عندما بلغ احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية 5.6 مليار دولار، ودخل الاقتصاد اللبناني في حالة من الانكماش، وزاد العجز المالي وارتفع الدين العام إلى 151% من حجم الناتج المحلي، وبلغت نسبة كلفة خدمة الدين العام من مجموع الإيرادات 89%. إلا أن الرئيس الحريري استنجد بصديقه الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي سارع إلى عقد مؤتمر “باريس 1” لدعم لبنان في 27 شباط 2001 في قصر الإليزيه، وتعهد المجتمع الدولي بتقديم 500 مليون يورو على شكل مساعدات وقروض ميسرة للبنان وكمساعدة أولية، واتفقوا على تنظيم مؤتمر آخر موسّع بمشاركة المفوضية الأوروبية والمؤسسات المالية الدولية وبمشاركة عدد من الدول المانحة، وهو المؤتمر الذي عرف بمؤتمر “باريس 2” الذي عقد في 23 تشرين الثاني 2002 وحصل منه لبنان على وعود مالية بقيمة 4.4 مليارات دولار منها 3.1 مليارات دولار تمثل قروضاً وتسهيلات و1.3 مليار دولار من أجل تنفيذ مشروعات إنمائية. لكن المبالغ التي حصل عليها لبنان بالفعل من باريس 2 بلغت 2.6 ملياري دولار على شكل تسهيلات مالية و1.3 مليار دولار قروضاً. وقد استخدمت حكومة الرئيس الحريري تلك القروض في استبدال دين مرتفع الكلفة بدين منخفض الكلفة.
وفي العام 2005، عاد شبح الانهيار المالي ليهدّد لبنان، فتم عقد مؤتمر “باريس 3” في 26 كانون الثاني 2007، بديلاً عن “مؤتمر بيروت 1” الذي كان تقرّر في اجتماع في نيويورك في أواخر أيلول 2005 في مقر الأمم المتحدة، والذي تم تأجيل إنعقاده لمرات عديدة بسبب الأوضاع السياسية في لبنان آنذاك. إلا أن هذا المؤتمر كان طابعه سياسي أكثر منه مالي ـ اقتصادي، حيث كان من المتوقع أن يقدم المؤتمر هبات مالية توازي كلفة الدين العام لمدة سنة واحدة. أي مبالغ تزيد عن ثلاثة مليارات دولار لسنة 2007. ولكن كل ما تم تقديمه من وعود الهبات للسنوات الخمس التالية كان في حدود 700 مليون دولار ليس أكثر، وبشروط تنفيذ البرنامج السياسي والاقتصادي المفروض على لبنان.
في سنة 2011، بدأت مؤشرات الانهيار الكبير تتصاعد، خصوصاً بعد أن شهد الميزان التجاري اختلالاً واضحاً بالتزامن مع بدء الحرب في سوريا. لكن الحكومات المتعاقبة لم تتّخذ أي إجراء لمعالجة هذا الاختلال في الميزان التجاري الذي كان يتصاعد سنوياً وصولاً إلى سنة 2017 حين بلغ العجز 16.74 مليار دولار، ثم في سنة 2018 حين بلغ العجز نحو 17 مليار دولار.
في 6 نيسان 2018، انعقد مؤتمر “سيدر 1” في باريس لدعم لبنان، وجمع المؤتمر، نظرياً، نحو 11 مليار دولار من المنح والقروض لتعزيز الاقتصاد والاستقرار في لبنان الذي كان بلغ حافة الانهيار. لكن المؤتمر اشترط تحقيق إصلاحات في الواقع المالي اللبناني. وعيّن المؤتمر السفير الفرنسي بيار دوكان “ناظراً” لمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر “سيدر” لدعم الاقتصاد اللبناني. لكن الإصلاحات لم تتحقّق، وأموال “سيدر” لم تأتِ.
وعلى الرغم من أن جرس الإنذار دقّ بقوة إيذاناً بقرب الإنهيار، إلا أن الحكومات، والقوى السياسية، كانت تمارس هواياتها بالهدر والمحاصصة والفساد… بينما كانت المصارف، بالتعاون مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تغامر بأموال المودعين، سواء عبر استثمارات خارجية فاشلة بمليارات الدولارات، أو عبر شراء سندات خزينة من مصرف لبنان لصالح الدولة طمعاً بالفوائد المرتفعة، بينما كان حاكم مصرف لبنان يمارس هوايته بما يسمى “الهندسات المالية” التي قدّمت للمصارف، ولعدد من السياسيين، أرباحاً طائلة من أموال المودعين.
كان الكل يقدّم الرشوة للكل.. الحكومة والقوى السياسية وحاكم المصرف المركزي والمصارف.. ومن أموال المودعين تحديداً!
… ثم حصل الانهيار!
• الحلقة الثانية من رواية “الانهيار المالي”:
المصارف تهرّب الأموال.. قبل الانهيار!