| فرح سليمان |
بعد فترة هدوء لم تدم طويلًا، عاد الإحتلال إلى تصعيد عملياته العسكرية في سوريا، مستهدفة مواقع في الجنوب السوري، وسط تحركات برية محدودة بين القنيطرة ودرعا، هذا التصعيد لا يأتي في سياق الضربات التقليدية التي لطالما نفذتها “تل أبيب” لمنع تعاظم النفوذ الإيراني، بل يبدو جزءًا من استراتيجية جديدة، قد تكون مستوحاة جزئيًا من التجربة التركية في الشمال السوري، ولكن بأهداف مغايرة تتناسب مع المتغيرات السياسية والعسكرية في دمشق.
منطقة منزوعة السلاح
منذ سنوات، اعتمدت “تل أبيب” سياسة “العلاج الموجّه” للوجود الإيراني في سوريا، عبر استهداف شحنات الأسلحة والمواقع العسكرية التابعة لـ”الحرس الثوري” و”حزب الله”، لكن ما يحدث اليوم يتجاوز مجرد عمليات قصف متفرقة.
وأعلن وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن خطة لإنشاء “منطقة منزوعة السلاح” تمتد من جنوب دمشق حتى حدود فلسطين المحتلّة، وبحسب كاتس فإن الهدف من إنشاء المنطقة هو “منع الجماعات الإرهابية من تنظيم نفسها في سوريا”.
وهو ما يعكس تحولًا في التفكير الأمني للاحتلال الإسرائيلي تجاه سوريا منذ سقوط الرئيس السابق بشار الأسد.
وبالتزامن مع ذلك، حذّر رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قوات “الجيش السوري الجديد”، التابعة لوزارة الدفاع في الحكومة السورية الجديدة، من الانتشار في منطقة درعا-السويداء-القنيطرة، التي باتت تصنَّف إسرائيليًا كـ”منطقة أمنية”.
ويواصل الاحتلال الإسرائيلي تعزيز استراتيجيته الأمنية في الجنوب السوري عبر خطة دفاعية جديدة تقوم على ثلاثة مستويات تهدف إلى ترسيخ نفوذه العسكري وخلق واقع ميداني يخدم مصالحه الأمنية طويلة الأمد:
– يتمثّل المستوى الأول من الخطة في تعزيز المنطقة الحدودية داخل الأراضي المحتلة، عبر إنشاء حزام أمني محكم يضم مواقع عسكرية محصنة، وسياجًا متطورًا مزودًا بأجهزة استشعار، إلى جانب انتشار وحدات احتياطية مدعومة بالمدفعية ومنظومات دفاع جوي، بهدف حماية المستوطنات القريبة من أي تهديدات محتملة.
– أما المستوى الثاني، فيمتد إلى عمق الأراضي السورية، حيث يسعى الاحتلال إلى إقامة نقاط عسكرية ومواقع مراقبة داخل المنطقة العازلة شرق الجولان، بهدف تنفيذ عمليات استباقية، مع الاعتماد على الطائرات المسيّرة ووحدات الاستطلاع لتعزيز الرقابة والسيطرة الميدانية.
– المستوى الثالث يكمل هذه الاستراتيجية بفرض نزع السلاح في جنوب سوريا، من خلال إخلاء “هيئة تحرير الشام” والجيش السوري الجديد من أي أسلحة ثقيلة أو صواريخ، مع الإبقاء فقط على الأسلحة الخفيفة ضمن ترتيبات أمنية محددة، تسعى تل أبيب إلى فرضها كأمر واقع في المنطقة.
هذه الخطوات تأتي في سياق مساعي الاحتلال لتوسيع نطاق نفوذه الأمني جنوب سوريا، وخلق بيئة عسكرية تضمن له التفوق الاستراتيجي، في ظل التحولات السياسية والميدانية التي يشهدها الملف السوري.
وكانت قد احتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي مرتفعات جبل الشيخ والمنطقة العازلة في جنوب سوريا، الفاصلة عن الحدود مع الجولان السوري المحتل، وذلك بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول.
تكرار التجربة التركية وسط ضمانات دمشق
ما تفعله إسرائيل في الجنوب السوري يعيد إلى الأذهان التجربة التركية في الشمال، فتركيا، التي فرضت مناطق آمنة يُمنع على الجيش السوري دخولها، استخدمت حجتين رئيسيتين: حماية أمنها القومي، وإيجاد بيئة مناسبة لعودة اللاجئين السوريين، هذه المناطق منحت أنقرة نفوذًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا في المشهد السوري.
اليوم، يبدو أن “إسرائيل” تحاول تنفيذ سيناريو مشابه في الجنوب، لكن ليس لحماية المدنيين، بل لإنشاء منطقة أمنية دائمة تحت سيطرتها.
منذ وصول السلطة الجديدة إلى الحكم في دمشق، تحاول طمأنة الدول الإقليمية، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، عبر التأكيد على التزامها باتفاقية فك الاشتباك لعام1974 – التي تقضي باستمرار وقف إطلاق النار القائم وفصل الأطراف المتحاربة بواسطة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة- لكن تل أبيب تبدو غير مقتنعة بهذه التطمينات، خصوصاً في ظل الوضع العسكري والاقتصادي الهش لسوريا.
الجيش السوري، الذي أنهكته الحرب، لم يعد يشكل تهديدًا حقيقيًا للإحتلال، كما أن الضربات الإسرائيلية السابقة قضت على جزء كبير من ترسانته العسكرية.
في المقابل، تعاني الحكومة السورية الجديدة من انقسامات داخلية، وانتشار فصائل مسلحة معارضة، وهو ما يعقّد المشهد الأمني ويضعف أي ضمانات تقدمها دمشق، ويجعل الحكومة السورية الجديدة في صمت مطبق.
المخاوف الإسرائيلية
إذا كانت “إسرائيل” قد نجحت في الحد من النفوذ الإيراني جزئيًا، فإن المشكلة الجديدة التي تؤرق صناع القرار في تل أبيب هي تركيا، فكما تمكنت إيران من توسيع نفوذها في سوريا عبر دعم الأسد، يخشى الاحتلال أن يتكرر المشهد نفسه مع أنقرة.
حاليًا، تمتلك تركيا أكثر من 129 نقطة عسكرية داخل سوريا، وتعمل على تعزيز وجودها، ووفقًا لتسريبات إعلامية تركية، تسعى أنقرة إلى إنشاء قواعد جوية وبرية، إضافة إلى منظومة دفاع جوي، بهدف فرض معادلة جديدة، هذا التوجه دفع “تل أبيب” إلى رسم خطوط حمراء جديدة، تشمل منع أي وجود عسكري سوري جنوب دمشق، والتشكيك المتواصل في شرعية الحكومة الجديدة.
وفي هذا السياق، وصف وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي جدعون ساعر الحكومة الجديدة في دمشق بأنها “جماعة جهادية إرهابية استولت على السلطة بالقوة”، متهمًا إياها بانتهاج سياسات انتقامية ضد العلويين والأكراد، هذا الخطاب ليس مجرد هجوم دبلوماسي، بل محاولة لتقويض شرعية الحكومة الجديدة دوليًا، ومنع أي دعم دولي قد يمكنها من الصمود في وجه ضغوط الاحتلال الإسرائيلية.
خطوة إستباقية
ما يقوم به الاحتلال اليوم ليس مجرد رد فعل على المتغيرات في سوريا، بل هو خطوة استباقية تهدف إلى منع دمشق من أن تصبح ورقة ضغط بيد تركيا، كما كانت سابقًا بيد إيران، تدرك “تل أبيب” أن أي اعتراف دولي بالحكومة السورية الجديدة قد يمنح أنقرة نفوذًا أكبر، وهو ما تحاول منعه عبر التصعيد العسكري والتشكيك السياسي.
في ظل هذه التطورات، يبدو أن المواجهة بين الاحتلال ودمشق لن تتوقف قريبًا، لكنها لن تكون مواجهة مباشرة بالضرورة، فـ”تل أبيب” لا تخشى تهديدًا عسكريًا سوريًا بقدر ما تخشى تحول سوريا إلى منطقة نفوذ تركية، وبالتالي، فإن ضربات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة جزء من صراع استراتيجي طويل الأمد، تسعى إسرائيل من خلاله إلى الحفاظ على تفوقها العسكري والسياسي في المنطقة، ولو على حساب استقرار سوريا.














