| سكينة السمرة |
لم يكن نصرالله عادياً وإلّا لما أسقطت إسرائيل 85 طناً من القنابل الخارقة للتحصينات لإغتياله.
في مشهدٍ مهيب، يودع لبنان والمنطقة قائداً استثنائياً. فلا يختلف أحد، من محبيه وأعدائه، أن من سيُشيّع الأحد 23 شباط ليس مجرد زعيم سياسي عربي كغيره من الساسة والزعماء الذين مرّوا على هذه البلاد، إذ أظهر السيد حسن نصر الله، أمين عام “حزب الله” السابق، شخصية جدلية على الصعيدين السياسي والاجتماعي في لبنان والشرق الأوسط على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
هو الذي ولد في منطقة برج حمود في حي الكرنتينا الفقير في العاصمة بيروت. ينحدر من البازورية، جنوب لبنان، لم تكن رحلته في الحقيقة من حياة متواضعة إلى جاهٍ وقصور، بل يمكن القول أن رحلة حياته كانت من حياة شاب عادي إلى واحد من رجال السياسة الأبرز في المنطقة. وهُنا لا يخفى الدور الذي لعبه في قضايا تخص سوريا واليمن والعراق وفلسطين ولبنان طبعاً. ومن ناحية المعتقد، لطالما أعرب عن انتمائه إلى “ولاية الفقيه” وجمهورية إيران.
ماكينة إعلامية للحزب
شكّل نصر الله ماكينة إعلامية للحزب في وجه “إسرائيل”، مرتكزاً على الوضوح والخطاب الإعلامي المؤثّر. لقد تميّز بكاريزما يندر أن يتمتع بها السياسيون والعسكريون، حيث تغلب الطباع الحازمة. فقد كان قادراً على أن يُحاكي في خطابه طفلاً في أوائل سنين عمره وشُبّاناً وشيوخاً، الشيعة وغير الشيعة، النخب والعامة، اللبنانيين وغيرهم، المتدينين واللا دينيين، في خطابٍ سياسيٍ واحد لا يخلو من المزاح وملاطفة الجمهور. ولطالما اعتمد على تمرير النكات لتوصيل الرسائل السياسية، فكان من الواضح في أحاديثه والمقابلات التي أجراها العفوية التي تغلُب على شخصيته.
لعبت خطابات السيّد، الذي وُصف بـ”الإعلامي الأوّل” في المحور خلال الحروب والمواقف الحساسة، دوراً بالغ الأهمية في مسار الحزب، إذ لم يكن لها تأثيرها النفسي على المجتمع في الداخل وحسب بل على المجتمع الإسرائيلي أيضاً. ولهذا يعتبر الكثيرون اليوم أن غياب نصر الله لم يخلّف فراغاً كبيراً سياسياً لدى بيئته فقط، بل ترك فراغاً إعلامياً من جهة وعاطفياً من جهة أخرى. أمّا نفسياً، لا يغيب التأثير الكبير الذي يتركه خلفه، فليست خفية العبارة التي يُرددها عدد كبير من بيئة الحزب “لو كان السيد موجوداً لكانت كُلّ الخسائر هينة”.
خطاب واضح ومنظم
إشتهر بخطاباته المطوّلة التي تتناول مختلف القضايا السياسية والعسكرية والاجتماعية. وغالباً ما استخدم لغةً واضحةً ومباشرةً تصل إلى مختلف شرائح الجمهور. ولم تكن تخلو خطاباته من طابع التحدي، حيث يتوجّه إلى خصومه برسائل قوية وحاسمة، أما محبيه فيُظهر لهم عاطفته من دون حواجز. وكان يحرص على توثيق خطاباته بالحقائق والأرقام، ممّا يمنحها مصداقيةً أكبر. فكانت تحظى بمتابعةٍ واسعةٍ في العالم العربي والغربي، وغالباً ما تُثير ردود فعلٍ قويةٍ ومصدر قلقٍ لخصومه وخاصةً في الداخل الإسرائيلي.
كان لافتاً وضوحه وتنظيمه لخطابه فيعطيه الأهمية الكافية ولا يتركه للصدفة ووليداً لِلحظة، فيحدد المحاور من بداية الخطاب ويعدد العناوين والنقاط والمواضيع التي سيتطرق إليها. وبعد 19 عاماً، لا تزال بعض عباراته تتردد على منصات التواصل مثل جملة “انظروا إليها تحترق”، في إشارة إلى البارجة الإسرائيلية “ساعر” التي تم استهدافها في 2006، ومثل عبارة “ما بعد بعد حيفا” التي حضرت في أغنية خالد الهبر حين غنى “أنا عائد إلى حيفا، وعدني حسن قال لي حسن، إلى ما بعد بعد حيفا”.
أمّأ اهتمام نصر الله بالإعلام فقد كان جلياً، وتطرق لهذا الموضوع في الكثير من خطاباته، حيث كان يشير إلى متابعته للإعلام الإسرائيلي وكذلك إعلام منافسيه في الداخل من قنوات وصحف وغيرها من الوسائل. أدرك مبكراً أهمية الحرب الإعلامية والنفسية والدعاية السياسية في بناء الرأي العام. وحتى منصات التواصل والمواضيع التي تُحدث ضجة أو جدلاً على هذه المواقع كان لها حصة من حديثه في الكثير من الأحيان.
يتعاطف اليوم جزء كبير من الشيعة الذين هم على خلاف مع الحزب، مع رحيل نصر الله ، وحتّى الجنوبيون غير الشيعة وغيرهم مِمَن هم على عدم وفاق مع سياسة الحزب، فيعتبرون أنه من ردع “إسرائيل” عنهم لسنين رغم الخلاف السياسي الكبير مع هؤلاء. ولكن من الواضح أن على الحزب تدارك الموقف، فمن المؤكد أن شخصاً واحداً لن يلعب الأدوار جميعها التي كان يأخذها نصر الله على عاتقه، من السياسة والعسكر إلى الدين والإعلام وغيره. لقد كان إستثنائياً…














