الخميس, ديسمبر 18, 2025
spot_img
spot_img
spot_img
الرئيسيةSliderالعمارة فعلٌ مُقاوِم: هندسة ما بعد الحرب.. وذاكرة المكان!

العمارة فعلٌ مُقاوِم: هندسة ما بعد الحرب.. وذاكرة المكان!

spot_img
spot_img
spot_img
spot_img

| إنعام ناصر الدين |

في المقهى بجانبي يجلسُ شبّانٌ يتسامرون، يخترقُ مسمعي سؤالٌ واحد: “هل تعتقدون أن فتح الحدود واردٌ في السنوات المقبلة؟”

الأغربُ من السؤال كان عدم الامتعاض!!
فكّروا من دون استنكار، كأنّ احتماليّة الحصول واردة أكثر اليوم.

أنتقل أنا بنظري من المقهى إلى المدينة التي أتأمّل شوارعها من خلف الزجاج.

النبطيّة كالكثير من المدن في لبنان لم تعد كما كانت قبل الحرب الأخيرة.

الجراح في الأبنية واضحة والنوافذ تلتحف القماش و”النايلون” بدل الزجاج.

الأرصفة تحفظ الدّمار وكلّ الغارات كأنها ترفض أن تطوي الصفحة.

يسعى القيّمون إلى إزالة آثار الحرب بسرعةٍ بغية إعادة ماء الحياة إلى مجاريها، بينما تختارُ مدنٌ أخرى إبقاء بعض العلامات كجزءٍ من الذاكرة الجماعيّة أو بغية أهدافٍ إعلاميّة. ففي بعض المُدن تمحى آثار الحرب كأنها وصمة عارٍ لا بدّ من إخفائها. ولكن الجنوب مختلفٌ كالعادة، هنا في الجنوب الأرضُ تقاومُ النّسيان!!

العمارة بعد الحرب أبعدُ من فكرة ترميم الجدران، بل هي قرار: أيّ ذاكرةٍ تستحق البقاء وأيّها التي يجب محوها؟.

رأيتُ سابقاً كيف تتحوّل المدينة إلى مشروعٍ استثماريٍّ مُربِح، رأس ماله من جيوب إرادةِ سكّانها. ولكن في الجنوب حيث يحمل كلّ حجرٍ قلباً هل سيكون الإعمارُ إطاراً صلباً تحفظ به الذاكرة، أم ممحاةً لها؟

من يُقنعُ إبني الجالس في المقهى بعد عشرين عاماً أنّ العدوان الاسرائيليّ مرّ من هنا؟! وأنّه وحشيٌّ للدرجة التي لا يحتمل أمر قبولهِ نقاشاً؟! كيف نربّي الحقد على الاستعمار في طفلٍ لم يولد بعد، ولم يسمع أيّ “جدار صوت”، ولم يستنشق الغبارَ بعد الغارات؟! .

الحرب الواسعة علينا أكبر من المنحى العسكريّ، فلطالما استعملت الدول الكبرى أسلحةً أكثرَ فتكاً من الصواريخ. ربّما لهذا السبب قال محمود درويش في قصيدته المشهورة “على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة” عبارةً لا تغيب عنّي: “… خوف الغزاة من الذكريات”، الذكريات قد تخيف العدوّ بقدر ما تخيفه الأنفاق، لأنها ببساطة تنشئ جيلاً كاملاً مشبّعاً بالكره والرفض له، ويصبح لاحقاً مقاوماً بالفطرة.

دبابة إسرائيلية في سوق النبطيّة

ما دمنا دائماً نستشهد بالتجارب الغربيّة الناجحة يمكنني اليوم طرح مثال الأبراج التي أعيد بناؤها بعد حادثة 11 أيلول في نيويورك، حيث حافظوا على الفجوات في الأرض وأعادوا تصميمها بشكلٍ جاذبٍ للمستخدمين.

حوّلوا الفجوة في الأرض إلى مكانٍ عام، وكتبوا أسماء الضّحايا على الحجار، كي لا ينسى المارّون “إرهاب” ما حصل، بحسب مفهوم الأميركيين.

اليهود معروفون أيضاً في تخليد أنفسهم بلعب دور الضحيّة، حيثُ بنوا المتاحف والمدافن في صورةٍ تجعلهم للأبد في موقع الشّعب المضطهد الذي تمّ إحراقهُ فثار على الظّلم. وهنا نرى كيف استخدموا العمارة والذاكرة في آن واحد لتبرير وحشيتهم أمام الرأي العام، وتصنيفها دائماً في إطار ردّ الفعل لا الاعتداء.

العمارة فعلٌ مقاوم، لا يكون عبر التقوقع والجلوس فوق أطلال الركام. التحدي يكون عبر مراعاة ذاكرة المكان أثناء إعادة تصميمه أو إعماره.

النبطية بعد الحرب 2025

تحويلُ الشّارع الذي مرّت به دباباتهم إلى شارع يرفض ويقاتل ويسدُّ طريقهم كلما فكّروا ثانيةً في الاعتداء.

وللشبّان الجالسين في المقهى بجانبي أقول، قد يكون السّؤال الحقيقي ليس إن كانت الحدود ستفتح بل كيف نسدُّ في وجههم الحدود والطّرقات وأبواب البيوت.

في كلِّ مرّةٍ يعتدون وتُهدم فيها مدينة بصواريخهم هناك خياران: إمّا أن نكون نحن والمكان في تصدٍّ مقاوِم أو أن نكون في صفِّ العدوان ونساعده في طمس الذاكرة والهويّة تحت إسمنت النّسيان!

spot_img
spot_img
spot_img

شريط الأحداث

مقالات ذات صلة
spot_img
spot_img