| جورج علم |
بعيداً عن المجاملات والمزايدات، يمكن القول بأن مناخاً من الإرتياح لفح غالبيّة الجماعات اللبنانيّة، بعد اختيار قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهوريّة، ونواف سلام لتشكيل الحكومة.
كأنّ ما حصل أشبه بإستفتاء شعبيّ، عبّر المواطن بعفويّة، عن صدق مشاعره، لتجاوز الفراغ، ووضع حدّ لجلافته، وإختيار شخصيّة وطنية نظيفة من خارج الطبقة الفاسدة، كي تتولّى مهمّة إعادة النهوض، وتثبيت لبنان من جديد على خريطة الشرق الأوسط، وعلى قاعدة مثلّثة الأضلع: أمن ـ إستقرار ـ إزدهار.
وتطغى مفردة “الإختيار”، على اللغة الشعبيّة المتداولة، كبديل عن “الإنتخاب”، للتأكيد على أن غالبيّة الطبقة السياسيّة، لا فضل لها في إجتراح هذا الفضل، كونها لم تختر، ولم تنتخب طوعاً، بل صعدت إلى القطار المنطلق بقوة، وحسم، بعدما إقتنعت بأن مصلحتها تقضي بذلك، كي لا تبقى معزولة منزوية على الرصيف.
تعرف بأن الفضل يعود إلى الولايات المتحدة، وفرنسا، ومصر، والمملكة العربيّة السعوديّة، وقطر. وتعرف بأن “الخماسيّة” هي من أعدّ المحطة، وجهّز القطار، وحرّر السكة من العوائق، ووضع المعنيّين أمام خيارين: إما النهوض والصعود، أو الإستمرار في الفراغ.
واللغة الشعبيّة في لبنان مسيّسة، ومواكبة لكل جديد، ومؤثرة به أو متأثّرة. تعبّر راهناً عن المتغييّرات الكبرى التي أسهمت في إحداث التغيير المحلي، أبرزها إنقضاء عصر الميليشيات في الشرق الأوسط، لمصلحة الدول، والمؤسسات.
في لبنان، وعد ببناء دولة القانون بديلاً عن دولة “كل من إيدو إلو”. دولة المزرعة، والميليشيات، والفئويات، والمحسوبيات.
في سوريا مرحلة إنتقالية بعد بشّار الأسد، لم تكتمل فصولاً بعد، لكن هناك محاولة أعلن عنها رئيس هيئة الإدارة العامة أحمد الشرع، لدمج كل الميليشيات المسلحة في الجيش السوري.
في العراق كلام واضح لوزير الخارجيّة فؤاد حسين “أكّدنا لطهران أن ملف الفصائل المسلّحة شأن عراقي داخلي”.
يأتي ذلك بعد الزيارة الرسميّة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي، على رأس وفد رفيع، إلى طهران مؤخراً.
في غزّة إتفاق لوقف النار، ينفّذ على مراحل، وبضمانات عربيّة، ودوليّة، يهدف في نهاية المطاف إلى قيام سلطة دستوريّة مكان السلطة المسلحة.
قد يحتاج التحوّل لبعض الوقت، وللكثير من الجهد كي تنضج ثماره، لكن الأهداف واضحة، والمسافة محدّدة، والخطوة الأولى قد بدأت.
رسم الرئيس جوزاف عون الأهداف في خطاب القسم، حدّد المسافة خلال السنوات الست من عهده لتحقيقها. وكانت الخطوة الأولى بإختيار رئيس لحكومة العهد الأولى، يحظى بمواصفات متطابقة لتلك التي يجسّدها القاضي نواف سلام.
طوى الرئيس سلام، وفور تكليفه بتشكيل الحكومة، الصفحة السابقة، وفتح صفحة جديدة، وأحدث إنقلاباً من دون عناء، ومن دون إراقة نقطة دماء. قال “لا بديل عن التفاهم.. إلاّ التفاهم”. لا إقصاء، بل جمع، ولمّ شمل، وتعاون، ومشاركة. إختصر البيان الوزاري بعبارة واحدة: “إتفاق الطائف بروحيته، وحرفيته، موضع التنفيذ”. لا أولويات أخرى في البيان الوزاري يمكن أن تتقدّم على هذه الأولويّة. ولا يقول الطائف بدولة الميليشيات، بل بالدولة القوية القادرة على إحتواء جميع الميليشيات، والفئويات.
نادى بالطائف قبل تشكيل الحكومة. أراد أن يؤكد بأن المواصفات المطلوبة من الوزراء يفترض أن تتطابق مع المواصفات التنفيذية المطلوبة لتطبيق الطائف صعوداً نحو بناء دولة القانون والمؤسسات، دولة قويّة، قادرة، وعادلة، منفتحة ومواكبة لروح العصر التكنولوجي.
قد يكون ما حصل في التاسع من الجاري، بداية إنقلاب على الإنقلاب الذي حصل في 2005، عندما كان الهدف عدم الإمتثال، والخروج من تحت السقوف العربيّة، والإقليميّة، والدوليّة التي نصبت خيمة الطائف، والبحث عن صيغ جديدة، وخيارات مختلفة، وضمانات مغايرة.
منذ 2005، ولغاية التاسع من كانون الثاني 2025، كان الهدف صياغة طائف جديد. فرض وصاية جديدة، والتعايش مع واقع أمني، وسياسي، وإقتصادي، وثقافي، وإجتماعي، مفروض كأمر واقع، يأخذ صفة الديمومة والإستمراريّة بحكم الممارسة.
قبل الفراغ الذي إستمر على مدى سنتين وشهرين، كان هناك فراغ مقنّع بسلطة دستوريّة شرعية، فاقدة الصلاحيّة، لا تملك شيئاً من قرار الحرب والسلم، ولا تملك شيئاً من النباهة، والقوة، والقدرة على محاربة الفساد، ومواجهة تجويف المؤسسات، ونهب المال العام، وأموال المودعين، والتصدّي للجشع المستقوّي بالسلاح المتفلّت.
سلطة دستوريّة شرعيّة، وضعت الأشقاء في موضع الأعداء، ودفعت بلبنان للخروج عن دوره، وطوره، والإنتقال من حياده الإيجابي إلى المقطورة التي يجرّها قطار محور الممانعة.
عاش لبنان في ظلّ دولة الفراغ سنتين وشهرين، ولم يتمكّن الأولياء من صياغة طائف جديد، ومن التعايش مع طائف جديد مختلف، تهندسه عقيدة مستوردة، وتحميه بندقيّة مستوردة، وتثقّفه أبجديّة مستوردة.
إنقلاب على الإنقلاب…
هذا ما حصل في التاسع من الجاري، إنقلاب لخيار الطائف ضد الإنقلابيّين على الطائف، وهذا ما غيّر المزاج، وأوقد السراج، وأفسح الطريق أمام سبل العلاج.
لم يعد الوقت متاحاً للبهورات. عُرف الحصان، وعُرفت العربة، ولم يعد بوسع الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة سوى وضع الحصان أمام العربة، كي ينطلق موكب تطبيق الطائف ببعده السيادي، والإصلاحي، والدستوري، متّكلاً على دعامتتين أساسيتين:
• رئيس للجمهوريّة لا يريد شيئاً لنفسه. جاء من مدرسة “شرف، تضحيّة، وفاء” ليعيد بناء لبنان الدولة، ودولة لبنان الخلاّق.
• وتأييد خليجي ـ عربي ـ دولي واسع. عنوانه “نشر سيادة الطائف” بدءاً من الجنوب، مع إنتشار الجيش وفقاً لقرار وقف إطلاق النار، إلى “نشر السلام”، بالتعاون مع “قوات حفظ السلام” طبقاً لمندرجات القرار 1701، وحسن تطبيقه.