| جورج علم |
بدأت مرحلة شدّ الأحزمة. أقلعت طائرة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب نحو البيت الأبيض. عكّر صفو الأمزجة قبل وصوله. وضع يده على الخرائط. عبّر عن رغبته في التلاعب بمصائر دول، وشعوب، وكيانات. قالها صريحة بأنه يريد ضمّ كندا لتصبح الولاية الـ51. وشراء جزيرة غرينلاند الإستراتيجيّة. والسيطرة على قناة بنما. وتنظيم الملاحة ما بين قناة السويس، وباب المندب، والبحر الأحمر…
ضرب إعصاره الشرق الأوسط قبل وصوله إلى المكتب البيضاوي. تغيّرت أنظمة، وسقطت معادلات. ذهبت سوريا تبحث عن هويّة سياسيّة جديدة. إنفرط عقد “وحدة الساحات”. إنشغل لبنان بتثبيت وقف إطلاق النار، وإعادة رتي ثوبه المثقوب في الجنوب. إنشغلت غزّة بـ”صفقة وقف إطلاق النار”، والبحث عن مستقبلها، ومصيرها. فقد الحوثي دوره، عندما فقد مبرّر إطلاق صاروخه. لم تعد مساندة “حماس” حجّة. تغيّرت الحسابات مع تغيير المعادلات.
حوّل التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي “محور الممانعة” إلى طريق سريع بإتجاه طهران. إنها عالقة ما بين “العصا والجزرة”.
إستشعر الرئيس مسعود بزشكيان حجم الإعصار، بادر إلى إتخاذ الخطوات الإحترازيّة. أطلق سراح الناشطة الإلمانيّة ـ الإيرانيّة، ناهد تقوي، مع بدء المحادثات بشأن البرنامج النووي الإيراني في سويسرا، مع الإتحاد الأوروبي، قبل أسبوع من تولي ترامب منصبه.
وجّه عبر شبكة “إن بي سي نيوز” الأميركيّة، رسائل إلى واشنطن، أعرب فيها عن أمله “بأن يعود ترامب إلى السلام الإقليمي والعالمي، وألاّ يسهم على عكس من ذلك في حمّام دم، أو حرب”. وأعلن “إستعداد طهران للتفاوض مع الإدارة الأميركيّة الجديدة، من حيث المبدأ”. ونفى “أن تكون بلاده تآمرت لإغتيال ترامب”، رافضاً “إتهامات سابقة من واشنطن”.
في لبنان، يدان ممدودتان من الرئيس المكلّف نواف سلام، فهل من يتلقفها؟
“عرف الحبيب مكانه فتدلّل”. هذا في الماضي. الآن تغيّر المزاج، ويعرف “الحبيب المدلّل” بأن التحدّي كبير، وأن أكوام الإستحقاقات المصيريّة قد تشقّعت على البيدر الأميركي، وآن أوان الحساب!
ما بدر عن الرئيس المكلّف، إنما من موقع القوّة، لا من موقع الضعف. ومن موقع المسؤوليّة التاريخيّة، لا من موقع المحسوبيّة ـ الفئويّة. يريد لمّ الشمل. يسعى إلى وحدة وطنيّة حقيقيّة. يحاول أن يجعل من الضعف قوّة. أمام لبنان استحقاق مصيري يستدعي توحيد الطاقات، وحشد الإمكانات. على البيدر تحديات ثلاثة: تثبيت وقف إطلاق النار. إنسحاب العدو الإسرائيلي. وإطلاق ورشة البناء والإعمار.
أيام، وتنقضي مهلة الـ60 يوماً، ويصل لبنان إلى المنعطف الصعب. هل تحترم “إسرائيل” ما وعدت به آموس هوكشتاين؟
لا جواب قاطعاً. والسبب أن مستجدات طرأت. عندما ولد الإتفاق، لم تكن “إسرائيل” تعيث في سوريا تدميراً…وتقريراً. إنها الآن تتوغّل، وتتغوّل.
عند التوصل إلى الإتفاق، لم يكن من وقف لإطلاق النار في غزّة، ولا من “صفقة” لتبادل الأسرى، ولا من كواليس سريّة ناشطة للتفاهم حول مواصفات اليوم التالي، وما هو المقبول، وما هو المرفوض لمستقبل غزّة، وحل الدولتين.
عند الإتفاق، لم يكن دونالد ترامب في البيت الأبيض. وكان الدبلوماسي آموس هوكشتاين يتنقل ما بين مكتب الرئيس جو باين، وبيروت، وتل أبيب، ويكرّر الزيارات، ويضيّق المسافات، ويوزّع الضمانات والإبتسامات يمنة ويسرة. الآن، تغيّرت المعادلة.
نتنياهو يعلنها صريحة “مستقبل الجنوب.. جزء من مستقبل التطبيع”.
يعتبر أن وقف إطلاق النار، والإنسحاب، والبدء بورشة الإعمار، يشكّلون معاً وحدة متكاملة، تنجح إذا كانت على الطريق المؤدي إلى “الصندوق الإبراهيمي”! ويؤكد أن ما سيكون عليه الجنوب، ليس كما قبله. ولا يمكن ـ من منظاره ـ أن يعود الوضع إلى ما كان عليه في السابق، ولا بدّ من ضمانات أمنيّة “موثوقة”، ومراقبة أميركيّة جديّة، وصفحة جديدة كجزء مكمّل لمواصفات الشرق الأوسط الجديد.
يرفض لبنان الرسمي الإضافات، والتعديلات. ويعوّل على الضمانات الأميركيّة التي استودعها أموس هوكشتاين في صندوق المفاوضات السريّة، قبل أن يقفله، ويغادر مع الإدارة الأميركيّة المغادرة، تاركاً مفتاح الصندوق في جيبه، لعل وعسى يعود إلى لبنان يوماً مكلّفاً بتنفيذ مهمّة محددة من قبل إدارة الرئيس ترامب.
ويدرك الرئيس المكلّف، صاحب اليدين الممدودتين، أن رفض الإملاءات، أو القبول بها، يتطلّب وحدة وطنيّة غير معتلّة:
• والدليل أن “الميثاقيّة” ـ بنظر البعض ـ كانت متوافرة عند نجيب ميقاتي، وغير متوافرة عند نواف سلام، ويذهب بإنفعاله إلى الحديث عن “إنقلاب”، وعن “طعنة في الظهر”.
• والدليل، أن بعض ما جاء في خطاب القسم لا يحظى بإجماع وطني، لأن هناك من لا يرى مصلحة في أن تتولى الدولة اللبنانيّة ملف إعادة الأعمار، وملف إنسحاب “إسرائيل”، وملف تطبيق القرار 1701.
ويريد أن يكون هو صاحب الشأن، والمرجع، والجهة المخوّلة، وصاحب الحق الحصري، وأي مطالبة بالنزول من أعلى الشجرة، والقبول بالحقائق كما هي على أرض الواقع، إنما يعتبره إستهدافاً، وإقصاء، وإفتئاتاً على حقوق ومكتسبات حصريّة. وإن العودة إلى سقف الدولة لن تكون إلاّ وفق سلّة عارمة بالشروط الميثاقيّة، والسياسيّة، والأمنيّة، والإقتصاديّة، والإنمائيّة المقتبسة من “الحرص على تمايز وشراكة في القرار، للقبول بالطائف كمسار”.
• هل ينجح نواف سلام في تشكيل حكومة على قياس خطاب القسم، أم سينتهي به المطاف إلى الإعتذار؟
– أمامه عقبتان: إعادة الدويلة إلى كنف الدولة. وهذا تحدّ كبير له شؤونه، وشجونه، وإمتداداته الإقليميّة. وإستعادة السيادة وفق الخطاب اللبناني مع آموس هوكشتاين، لا وفق خطاب نتنياهو مع ترامب الهادف إلى ربط الجنوب بلبنان، مقابل ربط لبنان بقطار التطبيع!