| خلود شحادة |
منذ لحظة انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً، التفّت الكتل النيابية والأحزاب اللبنانية حوله. التفاف طبيعي، بل ضروري، لبدء مرحلة جديدة في لبنان بعد رحلة عذاب طويلة عاشها اللبنانيون، بفعل أزمة اقتصادية “متوحشة”، وحرب إسرائيلية وحشية، وفراغ رئاسي وإداري.
ولكن، في الوقت عينه، منذ لحظة انتخاب عون رئيساً، سلكت معظم القوى السياسية والبرلمانية مساراً توافقياً، لإطلاق عملية إعادة بناء الدولة، وإفساح المجال أمام العهد لقيادة البلد نحو ضفة الأمان. وصدرت مواقف عديدة شكّلت نموذجاً وطنياً، من بينها مواقف رئيس حزب “الكتائب” النائب سامي الجميل، وبعده النائب نديم الجميل ونواب الحزب. كذلك كانت مواقف “التيار الوطني الحر” والنواب المستقلين والكتل النيابية التي تمثّل مختلف تلاوين الطيف اللبناني… باستثناء “القوات اللبنانية” التي تصرفت وكأنها حققت انتصاراً سياسياً مدوياً، وتعاملت مع الرئيس المنتخب وكأنه عضو في “القوات” وصل إلى كرسي بعبدا.
لم تكتفِ “القوات”، بتبني وصول رئيس الجمهورية كـ”انتصار”، بل وسّعت فقاعات انتصاراتها، إلى رئاسة الحكومة، عقب تكليف القاضي نواف سلام تشكيل الحكومة العتيدة.
بمراجعة سريعة، يتبين أن استعراض مواقف “القوات” وسلوكها خلال فترة ترشيح أسماء لرئاسة الجمهورية والحكومة.. يكشف حقيقة “وهم الإنتصارات” الذي تعيشه “القوات”.
منذ بدء الفراغ الرئاسي، طُرح اسم قائد الجيش آنذاك جوزاف عون لرئاسة الجمهورية، إلا أن خيار “القوات” حينها كان ميشال معوض. ثم تبنّت “القوات” ترشيح جهاد أزعور كخيار يقطع الطريق على قائد الجيش جوزاف عون.
سنتان مرت على الفراغ، ليطرح من جديد بشكل جدّي أكثر، اسم عون لرئاسة الجمهورية. رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الرافض منذ البداية ترشيح عون، “لعب” الكرة لجعجع، و”أغراه” بأنه من الممكن أن ينتخبه “لما يشكل من شعبية في الشارع المسيحي”. حينها طاف جعجع على سطح ماء الرئاسة، معلناً أن لا مانع لديه من الترشح لرئاسة الجمهورية.. حتى غرق بالتسوية الخارجية أن عون رئيساً.. فكان “مرغماً لا بطل” بالتصويت لعون!
فاز عون، الذي يحظى بشعبية في الشارع المسيحي، لما يشكله قائد الجيش من حالة في الوجدان المسيحي، بأصوات “القوات” اللبنانية وحلفائها.. وأصوات “الثنائي الشيعي”.
إذاً، ليس بـ”القوات” وحدها مُلئ الفراغ.
لم تكتفِ “القوات” بذلك، بل بدأت بإملاء الطلبات على رئيس الجمهورية، بقولها “على عون أن لا يقبل بتأجيل موعد الإستشارات للثنائي الشيعي”، بعدما تردّد أن حركة “أمل” و”حزب الله” طلبا تأجيل موعدي استشاراتهما.
قدم الرئيس عون نفسه، من اللحظة الأولى، رئيساً لكل اللبنانيين، بخطاب قسم يشكل خريطة طريق للبنان الأفضل. إلا أن “القوات” مصرة على اعتباره رئيساً من “القوات” وللقواتيين حصراً وليس حتى للمسيحيين، حتى باتت مواقفها تحرج رئيس الجمهورية الذي يشكّل نقيضاً لـ”القوات” ولغيرها من القوى السياسية.
ومن الاستحقاق الرئاسي، إلى الإستحقاق الحكومي، الذي أيضاً تعاملت معه “القوات” على أنه انتصار آخر في معارك “دونكيشوتية” تخوضها.
أيضاً في قراءة لهذا الإستحقاق، فإن “القوات اللبنانية” احتارت بين ترشيح النائبين فؤاد مخزومي وأشرف ريفي، ليرسو قرارها على مخزومي، لاعتبارات “مصلحية” حيث أن مخزومي يموّل بعض المؤسسات الإعلامية المحسوبة على “القوات”. وبعد ضغط خارجي، “كوّع” جعجع باختيار نواف سلام، الذي سبق أن قال عنه جعجع عند ترشيحه في المرة الأولى “ما بعرفو ولا بعرف عنو شي.. كيف بدي رشحو؟!”.
ركبت “القوات” من جديد موجة الانتصارات، وحاولت تصوير نفسها على أنها هي التي فازت، لتداري خيبتها بدفن رغباتها حية.
وبدأت، أيضاً، بإملاءات جديدة على رئيس الحكومة، تتعلّق بتحديد التمثيل السياسي داخل الحكومة وإطار بيانها الوزاري، ووضعت خطوطاً حمراء مسبقة على مضمون ذلك البيان، حتى قبل أن تتشكّل الحكومة.
“شيزوفرينيا” السياسة لـ”القوات اللبنانية” ظهرت جلياً في عملية توزيعها للحقائب، مستولية على صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة.
بداية، نَسفت تمثيل المجتمع المدني، على لسان رئيس الكتلة جورج عدوان، الذي قال متهكماً إن “القوات لا تريد مشاركة “الجمعيات” في الحكومة العتيدة.
ولاحقاً، أكد ضرورة مشاركته وسيطرته على أكبر عدد من الحقائب الوزارية لأنه “يمثل أكبر كتلة مسيحية” في المجلس النيابي، ليعود ويقول لـ”الثنائي الشيعي” إنه إن لم يكن يريد المشاركة بالحكومة بإمكانه أن يتموضع في موقع المعارضة.
نسيت “القوات”، على لسان عدوان، أو تناست ربما، أنها ربما تكون أكبر كتلة مسيحية مارونية، لكنها ليست الوحيدة، فهي تشكّل نسبة 29.5 % فقط من التمثيل المسيحي، وبالتالي فإن عدم مشاركتها في الحكومة، لا يعني إلغاء تمثيل المسيحيين أو الطائفة المارونية.
بينما عدم مشاركة “الثنائي الشيعي”، الذي يمثّل 100% من الشيعة و42% من المسلمين بحسب نتائج الانتخابات النيابية، تعني إلغاء التمثيل الشيعي في الحكومة، وبالتالي أي حكومة من دون مشاركة “الثنائي الشيعي” تعني نقض صيغة العيش المشترك، مما يعني أنها فاقدة للشرعية.
أعطت “القوات” لنفسها، ليس فقط دور الرئاستين الأولى والثانية، بل وأيضاً حق القرار عن طائفة بأكملها، على قاعدة “ما لنا هو لنا.. وما لكم هو لنا أيضاً”.
بل وأيضاً، أعلن عدوان، في تصريحه عقب لقائه سلام، عناوين “البيان الوزاري”، فألغى دور الوزراء والأطراف المشاركين في الحكومة.. مهدداً بإفشال العهد الذي يدّعي أنه “عرّاب” وصوله.
هذه المواقف تفرّد بها “قائد معراب”، حيث أن جميع الخطابات والتصريحات، شددت على ضرورة مشاركة “الثنائي الشيعي”، وعلى أهمية عدم إلغاء أو استبعاد أي مكون، وهذا أما أعلنه رئيس الجمهورية، الذي استشهد بأقوال الإمام السيد موسى الصدر أن لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، وأن انكسار أي مكون يعني انكسار لبنان، ومضى على نفس المبدأ رئيس الحكومة المكلف.
وبذلك تكون مواقف رئيسي الجمهورية والحكومة بعيدة جداً عن موقف “القوات”. الرئيسان يسعيان لتحقيق “الجمهورية الثالثة”، بسلطة تجتمع تحت سقفها كل المكونات اللبنانية، في المقابل تقدم “القوات” خطاباً إقصائياً إنعزالياً تريد منه الإيحاء أن العهد الجديد هو عهد “الجمهورية القواتية” ليس إلّا!
تريد “القوات” إنشاء دولة من دون “الشيعة”، قالتها بكل وضوح، وهذا ما يتنافى بشكل كامل مع رغبة الرئيس الجديد.
وفي الوقت الذي تجهد كل الفرق السياسية، لإحلال الدولة المدنية، وإلغاء الطائفية السياسية، وإقرار اللامركزية الإدارية، بناء على خطاب القسم لرئيس الجمهورية، تبذل “القوات” قصارى جهدها لمركزة الطائفية، وتكريس المارونية السياسية من جديد، في سعي واضح للرجوع إلى الوراء.. بدل التقدم والتطور!
وما بين مساعي الرئيسين الجديدين للمضيّ قدماً، تسعى “القوات”، بشكل أو بآخر، إلى رمي العوائق في طريق الإصلاح السياسي، عبر خطاب إلغائي فشل في الماضي، وأثبت بالتجارب أنه لا يمكن لأي طرف أن يلغي طرفاً آخر.. وأن اللبنانيين محكومون بالتوافق.
* لا تعبّر الآراء الواردة في المقالات بالضرورة عن سياسة موقع “الجريدة”