اعتصم التلفزيون السوري الحكومي بالصمت ليلة سقوط نظام الأسد، تاركاً فراغاً إعلامياً وسط تساؤلات عن سر عدم إعادة الإدارة الجديدة للبلاد تشغيل هذا المنبر الإعلامي الهام.
وبينما تُثار التساؤلات بشأن سبب غياب البث الرسمي وما يخبئه المستقبل للإعلام السوري، تتباين الآراء بين من يرى أن عملية إعادة تشكيل كادر الإدارة، الذي كان في غالبيته تابعًا للنظام السابق، تتطلب وقتًا، ومن يعتقد أن القضية أكثر تعقيدا.
فقد طفت إلى السطح فرضيات أخرى، من بينها كيف سيكون “شكل” ونهج هذا التلفزيون في ظل سلطة لديها توجه إسلامي محافظ، إن لم نقل متشددًا.
واليوم، قال معاون المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، محمد السخني، في حديثه مع صحيفة تشرين، إن التلفزيون السوري يستعد لاستئناف بثه قريبًا.
وأوضح أن الانطلاقة الجديدة ستكون “مختلفة شكلًا ومضمونًا” وتهدف إلى “مواكبة نصر الثورة السورية”، بحسب تعبيره.
ومنذ 8 كانون الأول 2024 حين غادر بشار الأسد سوريا وانهار نظامه، توقفت كافة القنوات التابعة للتلفزيون السوري عن البث.
وتكتفي القناة السورية الرئيسية ببث شريط أخباري فقط لفترات وجيزة، إلإ أن الشاشة السوداء هي الطاغية معظم الوقت.
ويتجاوزعمر التلفزيون السوري ستة عقود، فقد انطلق إرساله في 23 تموز 1960 مع شقيقه التلفزيون المصري تحت اسم موحد “التلفزيون العربي” حين كانت سوريا ومصر تجتمعان في وحدة لم تلبث أن انهارت بعد عام تقريبًا من انطلاق البث.
واستبعد المدير العام السابق للتلفزيون السوري، ممتاز الشيخ، خلال حديثه مع موقع الحرة، وجود أي عائق تقني يحول دون مواصلة البث التلفزيوني الرسمي.
وأشار إلى أن عدم توفر النهج الإعلامي أو خطة بديلة لتغطية ساعات البث بالنسبة لأعضاء السلطة الجديدة، يمكن أن يكون السبب الرئيسي في تأخير البث.
وأضاف الشيخ: “أستبعد تمامًا وجود أي عائق تقني، على الأقل حال دون مواصلة البث التلفزيوني الرسمي. أما من حيث الإمكانات البشرية، فهي متوفرة جدًا وبأضعاف الأعداد المطلوبة للتشغيل…”.
“لكن قد تكون مسألة الثقة بتوجهات الكوادر الموجودة لدى النظام السابق هي العامل الأساسي في تأخير البث، لكنني شخصيًا لا أتفق مع ذلك، على اعتبار أن الخيارات البشرية كثيرة لانتقاء كوادر آمنة (وفق النهج الجديد) لتسيير التلفزيون بالحد الأدنى”، وفق ما أردف الشيخ.
ومنذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، أصبح التلفزيون السوري أداة رئيسية في معركة نظام الأسد الإعلامية.
وعن رأيه في شكل التلفزيون السوري المقبل وتوجهاته، أوضح الشيخ أن الشكل الجديد للتلفزيون في سوريا رهن بشكل السلطة الجديدة، فهي التي ترسم معالمه من خلال استيعابها لقوانين التحكم بالإعلام في العالم وتفاعلاته، ومن خلال تقبلها للواقع السوري المتنوع.
وأضاف: “لدينا الكثير من الأمثلة على تقدم الحالة الإعلامية في مكانٍ ما على القطاعات الأخرى، ولدينا العكس أيضًا. فالإعلام التلفزيوني المعاصر يحتاج إلى بيئة مدروسة من الحرية ليتمكن من التعبير عن نفسه وللتأثير في جمهوره”.
ويرى الشيخ أن “الإعلام يشبه لاعب السيرك أو الجمباز الذي يحتاج إلى فضاء واسع وسقوف عالية كي تظهر مهاراته. فمستوى الهوامش والسقوف المرسومة للإعلام هو ما يحدد نجاحاته”.
وأشار إلى أن الإعلام الرسمي في سوريا، كما هو الحال في غالبية الدول، يعد انعكاسًا مباشرًا لتوجهات السلطة. “عن طريق وسائل الإعلام، يمكن للساسة في الدول الأخرى تحديد مواقفهم إزاء أي قضية من خلال متابعة رد فعل السلطة في أي مكان عبر وسائل إعلامها”.
وحسب المدير العام السابق للتلفزيون السوري، لا تزال سوريا “حتى هذه اللحظة (أي بعد مرور شهر واحد فقط من سقوط الأسد) في مرحلة صياغة التوجهات الجديدة للسلطة، بدليل أننا ما زلنا في مرحلة حكومة تصريف الأعمال، التي ستتبعها حكومة انتقالية أخرى لفترة زمنية”.
وقال: “ريثما تستكمل متطلبات الحوار الوطني المزمع عقده، وما سيتبعه من لجان متخصصة لكتابة الدستور الجديد وتحديد هوية الدولة وشكل الحكم، آنذاك فقط يمكن تصور شكل التوجه الإعلامي لسوريا، الذي سيكون انعكاسًا مباشرًا لتوجهات السلطة الجديدة”.
وقدم التلفزيون السوري مجموعة متنوعة من البرامج السياسية والثقافية والدينية والفنية، كما خرّج مجموعة من الإعلاميين الذين انضموا لاحقًا للعمل في مؤسسات إعلامية كبرى في دول عربية.
وبعد اندلاع النزاع في عام 2011، انشق عدد من الإعلاميين وهاجروا إلى خارج سوريا بسبب معارضتهم لسياسة التلفزيون حينها.
الدكتور غازي عبد الغفور، الأستاذ في كلية الإعلام والذي عمل سابقًا لسنوات كمدير أخبار في التلفزيون السوري، أشار في لقاء مع موقع الحرة إلى “وجود عدد كبير من الإعلاميين المتميزين خارج سوريا، ويمكن اليوم الاستفادة منهم جميعًا في عمل التلفزيون السوري الرسمي”.
وقال عبد الغفور: “خلال ساعة واحدة، في حال جهوزية الطاقم، ستكون القنوات جميعها على الهواء. فقط يجب أن يكون هناك توليفة وانتقال من خطاب كان يمجد نظامًا وعائلة، إلى خطاب دولة وحكومة وشعب، ضمن الأسس الإعلامية المعروفة وبثوب جديد”.
ودعا عبد الغفور السلطات الجديدة للتواصل مع جميع الإعلاميين الموجودين في الخارج والاستفادة من خبراتهم، مضيفًا: “من غير المعقول أن يُدار التلفزيون من قبل أشخاص غير متمكنين. التلفزيون السوري، وبرغم كل سلبياته، يمتلك عراقة وتاريخًا كبيرًا”.
الصحفي الاستقصائي السوري أحمد حاج حمدو، أحد مؤسسي شبكة سراج السورية للصحافة الاستقصائية، أشار في حديثه مع موقع الحرة إلى مجموعة من الجوانب التي رأى أنه يجب على التلفزيون السوري الرسمي العمل عليها في المستقبل.
وقال حاج حمدو إن التلفزيون السوري سيكون أحد أبرز الأركان التي ستحدد مستوى حرية الصحافة في سوريا. في حال توخى الموضوعية وعرض وجهات النظر المتعددة، فإنه بشكل أوتوماتيكي سيمنح الصحافة المستقلة دفعة قوية لأخذ دورها في مساءلة السلطة.
وأضاف: “التلفزيون يجب أن يتحدث بلسان الشعب، ويتبنى الموضوعية، وينتقي الكوادر، ويتبنى قيمة المساءلة”.
وأعرب عن اعتقاده بأن “على التلفزيون السوري، على الرغم من كونه مؤسسة رسمية، أن يعمل كخدمة عامة موجهة للشعب. لا يجب أن يكرر تجربة النظام المخلوع ويعيد ضخ الأخبار باتجاه واحد من السلطة إلى الشعب على شكل أوامر وفرمانات”.
بدلًا من ذلك، دعا حاج حمدو إلى أن “يُعد التلفزيون باقة إخبارية وبرامجية يكون فيها صوت الشعب مسموعًا، لأن أهمية أن تسمع السلطة دور الشعب لا تقل عن أهمية أن يسمع الشعب دور السلطة. بذلك، فإن أكبر عوامل نجاح التلفزيون السوري هو أن يكون جسر تواصل بين الشعب والسلطة، مع التأكيد على أولوية صوت الشعب”.
وأشار إلى أن التلفزيون السوري يجب أن يعرض جميع وجهات النظر، وأن يلتزم بالموضوعية في طرح مواضيعه وبرامجه.
وأكد حاج حمدو على ضرورة التوجه نحو تغيير الكوادر الإعلامية السابقة بشكل جذري.
وأشار إلى “غياب المهنية والاحترافية عن هذه الكوادر، لأنها كانت خلال سنوات عملها الطويلة جزءًا من ماكينة إعلامية للتغطية على الجرائم. هذا سيجعلها عقبة أمام القيم الصحفية الأساسية، مثل المصداقية والحرية والموضوعية واحترام حقوق الإنسان وعرض وجهات النظر المختلفة”.
وأضاف أن استمرار الكوادر السابقة بعملها سيخلق خطرًا يتمثل في أن الشعب سيفقد تلفزيونه مرة أخرى.
وقال: “قد يستنسخون التلفزيون السوري في عهد النظام البائد، وهذا سيُفقد الشعب السوري فرصة تاريخية في أن يخلق للمرة الأولى شاشة وطنية تتحدث بلسان الشعب لا السلطة”.