| زينب حمود |
تعود الروح تدريجياً إلى الضاحية الجنوبية، ويعود معها تذمّر سائقي الأجرة، من «الزحمة على خطّ حارة حريك وأوتوستراد السيد هادي نصرالله». تتكوّم أكياس النفايات أكثر فأكثر على جوانب الطرقات، ويُنشر الغسيل على المزيد من الحبال في الشرفات. إلا أنّ عودة العائلات النازحة وأصحاب المحال والمصالح لا تصاحبها عودة طبيعية للحياة في منطقة منكوبة تعرّضت للقصف الهمجي على مدار شهرين، جرّاء تضرر البنى التحتية من خطوط كهرباء الدولة والاشتراك والمياه والإنترنت والساتالايت، وتناثر ركام الأبنية على الطرقات الرئيسية والفرعية، عدا رائحة البارود والدخان التي لا تزال تعبق في كل مكان.
هذا كله لم يقف في وجه «حلم العودة» لأهل الضاحية الذين «لم يتحمّلوا الابتعاد عن ضاحيتهم أكثر من ذلك»، تقول سكينة التي رجعت إلى منزلها في المريجة صباح الأربعاء، «رغم أنني دفعت إيجار المنزل في الشوف قبل أربعة أيام».
على أنقاض الأبنية، تُرفع أعلام حزب الله وصور أمينه العام الشهيد السيد حسن نصرالله والشهداء القادة، ويتحلق شبّان في جلسات أرغيلة، ويتعانق الجيران بعد طول غياب. عبارة «الحمد لله على السلامة» هي الأكثر ترداداً على الألسنة، وتسبق قصص النزوح وحكايات حرب الـ 66 يوماً.
منذ الساعات الأولى لوقف إطلاق النار، حملوا أمتعتهم و«ركضنا إلى منازلنا ننظفها ونرتّبها»، تقول سيرين ابنة الـ 14 عاماً التي لم تنم طوال الليل. بعضهم اصطدموا بغياب أبسط مستلزمات الحياة، فأجّلوا عودتهم مثل فراس الذي أخبره صاحب مولد الكهرباء أنه لن يعيد تشغيله قبل عودة سكان الحي، ما يعني فقدان الكهرباء والمياه مع عدم القدرة على سحبها إلى الخزانات فوق الأسطح. أما من خسروا منازلهم فرجعوا ليعاينوا الدمار ويلتقطوا الصور ويبحثوا عن آخر ما تبقّى من أغراض وذكريات، قبل أن تبدأ رحلة البحث عن منزل للإيجار في الضاحية. أما البيوت التي تضرّرت جزئياً، فلن ينتظر أصحابها أي مساعدة للترميم، أطلقوا ورشات إصلاح الأبواب المخلّعة، والشبابيك التي تكسّر زجاجها بعدما التقطوا صور الدمار كإثباتات.
يختلف الوضع كثيراً بحسب المناطق ودرجة «نكبتها»، إذ كان التعافي سريعاً في حي السلم مثلاً لأنه لم يتعرّض لقصف كبير، ولذلك صمد كثيرون هناك وظلّت الحياة شبه طبيعية لجهة السوق الذي «ظلّ يؤمّن كل حاجاتي طيلة أيام الحرب»، بحسب زينب. كذلك الأمر بالنسبة إلى برج البراجنة حيث استأنفت عدة محال عملها خاصة محالّ بيع الأكل، وبعضها لم تقفل أبداً مثل «صيدلية جمال» في عين السكة التي بقيت تفتح نصف دوام، وملحمة جلول التي «لم تقطع بزبائنها الذين بقوا يقصدونها من أماكن نزوحهم»، بحسب صاحبها محمد. وتعود محال الألبسة والأحذية والإكسسوارات إلى العمل تباعاً في البرج وفي طريق المطار وتحويطة الغدير والمريجة وغيرها.
المشهد يختلف كلياً في حارة حريك وبئر العبد والرويس ومعوّض حيث الدمار كبير جداً، ما يعيق العودة بسهولة. تلملم الحارة، التي نالت حصة الأسد من الخراب، ركامها لتنهض، في الزاروب المحاذي لمؤسسة عامل والمؤدي إلى مطعم خليفة، انطلقت عملية رفع الأنقاض وترميم ما تبقّى من أبنية ومحال، تزيل جرافة الركام، ويكنّس الشباب الحجارة والزجاج المتطاير، وينتشر نجارون ومعلمو حدادة وبويا و«قزازون» لإصلاح الأبواب والشبابيك والواجهات. يقف رجل أربعيني أمام محله بعدما أفرغ البضاعة منه، «كلها للتلف»، يقول وهو يشير إلى صناديق من السلع الغذائية والسكاكر. أصلح الباب الحديدي، ويكنس عماله الركام، بانتظار وصول الدهان، لأن «لدينا كوم لحم نريد إطعامهم».
وفيما تعتقد بأنك لن تجد غير العمّال في هذه المنطقة المنكوبة، تطلّ ثلاث فتيات عشرينيات تقول إحداهن وهي تحمل رأس نرجيلة: «صحيح أنّ الحي يشبه مدينة الأشباح، لكن لم نعد نحتمل الابتعاد»، مضيفة: «وعدنا صاحب المولد أن يصلح خطوط الكهرباء الإثنين المقبل، عندها سيعود أبناء الحي أيضاً». تشكّك صديقتها في أن تكون العودة نهائية بسبب استفزازات العدو عند الحدود وبياناته عن معاودة القتال، فتردّ الثالثة: «شو ما صار ما رح نرجع نطلع من دارنا».