قبل أن يطمر “الطوفان” لبنان تحت الركام!

| جورج علم |

تبذل فرنسا جهوداً إستثنائيّة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين لبنان وكيان الاحتلال الإسرائيلي. ملعبها الولايات المتحدة الأميركيّة، والأمم المتحدة، والعديد من عواصم الدول صاحبة الوزن والحضور في التأثير والتدبير.

عندما زار وزير الخارجيّة جان نويل بارو بيروت، أكدّ للرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي أن تأييد البيان الأميركي ـ الفرنسي لا يكفي، بل المطلوب فصل جبهة الجنوب عن جبهة غزّة، والمطالبة بوقف لإطلاق النار، وتطبيق القرار 1701، وفق خريطة الطريق التي رسمها البيان. استُجيب الطلب، وعقد الإجتماع الثلاثي في عين التينة، وتم الإتفاق بين الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي ووليد جنبلاط على المطلب الفرنسي، وانصرفت الدبلوماسيّة اللبنانية إلى التحرك عبر بعثاتها لحثّ الدول الشقيقة والصديقة على العمل لوقف تدمير لبنان.

يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إقناع بنيامين نتنياهو بوقف مسلسل التدمير والتهجير. يسعى إلى قيام “لوبي” دولي فاعل، وضاغط، وكان تجاوب علني من الفاتيكان عندما انتقد البابا فرنسيس “الدبلوماسيّة العاجزة” عن وقف الحروب في الشرق الأوسط، في إشارة ضمنيّة منه إلى الإدارة الأميركيّة التي تقول بالشيء وتأتي بنقيضه. دبلوماسيّة ضعيفة من دون وزن، وخاليّة من أي مردود إيجابي، وهذا ما فتح الطريق أمام نتنياهو، وحضّه على الفجور، والجنون، والتعنّت، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، مستفيداً من تواطؤ واشنطن، وموقفها الملتبس من مجريات الأمور.

في حسابات ماكرون أن الرئيس بايدن يجب أن ينهي ولايته بقرار تاريخي، ولا يغادر البيت الأبيض إلاّ بعد أن يكون قد إتخذ قراراً بحماية لبنان، ووحدته، وسلامة أراضيه، عن طريق وقف آلة التدمير الإسرائيليّة، وهي من إنتاج أميركي، وتمويل أميركي، وتكتيك أميركي، وهو قادر ـ إن أراد ـ على إتخاذ هكذا قرار، لكن يبدو أن بنك الأهداف الإسرائيلي، هو أميركي بإمتياز، وتمليه المصالح الأميركيّة ـ الإسرائيليّة المشتركة لصياغة “الشرق الأوسط الجديد”.

وكان الوزير الفرنسي بارو قد توصل إثر جولته الأخيرة في المنطقة إلى قناعة مفادها أن طرفين لا يريدان وقف النار: إيران لا تريده على طول “جبهات المساندة” إلاّ وفق مقتضيات مصالحها. و”إسرائيل” ومعها الولايات المتحدة لا تريدانه عائقاً أمام هيمنة شبه مطلقة يسعيان إلى تحقيقها.

وكانت زيارة وزير خارجيّة إيران عبّاس عراقجي إلى بيروت، محطّ إهتمام الكثير من العواصم. وتأتي واشنطن في الطليعة، إلى جانب باريس، وعواصم الدول الموقّعة على البيان الأميركي ـ الفرنسي الخاص بلبنان، وترك حوار المصارحة بين الرئيس نجيب ميقاتي مع ضيفه إرتياحاً في الأوساط الدوليّة، حيث تصرّف كرجل دولة مؤتمن على مصلحة لبنان العليا، واضعاً النقاط فوق الحروف في ما يتعلق بجبهة الجنوب، وضرورة فصلها عن جبهة غزّة، والمطالبة بوقف إطلاق النار، والتأكيد على تنفيذ مندرجات القرار1701.

شعر الوزير الضيف بحجم التغيير الذي طرأ على الموقف اللبناني الرسمي، واستنتج بأن لبنان لم يعد وسادة مريحة تتكئ عليها المصالح الإيرانيّة بهناءة وراحة بال على شاطىء المتوسط. سمع صوتاً مغايراً لقناعاته وطموحاته، أخذ علماً بأن ما قدّمه لبنان للقضيّة الفلسطينيّة لم يقدّمه أيّ آخر، سواء أكان شقيقاً أو صديقاً، وإن زمن المزايدات والشعارات الشعبوّية أوصلت الأمور إلى ما هي عليه الآن.

لم تكن الزيارة موفّقة، لا من حيث المضمون، ولا من حيث التوقيت، حيث تراكم أعداد النازحين على جوانب الطرق التي سلكها موكبه للوصول إلى المقرّات الرسميّة ألتي زارها. كانت زيارة إستعراضيّة، واغتنمها بنيامين نتنياهو ليقنع البيت الأبيض بصوابيّة موقفه الداعي إلى تغيير قواعد الإشتباك في الشرق الأوسط.

لايريد “ثلاثي عين التينة” أن يبقى لبنان عالقاً ما بين المطرقة الإسرائيليّة، والسندان الإيراني. لا يريدونه أن “يهرب من الدلفة الإيرانيّة، ليقع تحت المزراب الإسرائيلي”. يريدونه أن يكون لنفسه، لناسه وأهله، لجماعاته، وخصوصياته، ملتقى ثقافات وحضارات وجسر إنفتاح ما بين الشرق والغرب. وإن إصرار البعض على التفرّد، والعبث بالمصير، والإنخراط في صراع المحاور، والإلتزام بتنفيذ أجندات خارجيّة إقليميّة – دوليّة، إنما هو إصرار للقضاء على ما تبقى من مقومات وطن واحد موحّد، والدخول عمداً في لعبة تغيير الخرائط.

ما يسعى إليه الفرنسي هو تحييد لبنان، حديقته التاريخيّة، ومريط خيله، عن صراع المحاور. لقد حوّله بعض أهله إلى خطّ تماس بين الإيراني ومن معه من جهة، والإسرائيلي ـ الأميركي، ومن معهما من جهة أخرى، هذا الخطّ، قد كلّف لبنان واللبنانيّين لغاية الآن ما يزيد عن الـ2000 شهيد، وأكثر من 10 آلاف مصاب، فضلاً عن مدن وقرى وبلدات قد سوّيت عماراتها بالأرض… فهل نكمل؟ وإلى متى؟ وما المبتغى من وراء هذا الإصرار على أن يصبح الوطن أثراً بعد عين؟!