/ خلود شحادة /
كأنّ تاريخ 2005 يعيد نفسه، فالتحولات التي طرأت على الواقع اللبناني عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري “جسدياً”، والجدل الواسع الذي حملته المرحلة، تشبه كثيراً ما يجري اليوم عقب “اغتيال” الرئيس سعد الحريري “سياسياً”.
رغم مرور ما يقارب الشهرين، ما زالت تداعيات انكفاء تيار المستقبل وسعد الحريري عن الانتخابات، ترخي بثقلها على الواقع السياسي اللبناني بشكل عام، والواقع الانتخابي على وجه الخصوص، والواقع السني بشكل مباشر.
ولعلّ كثرة اللوائح في دائرتي عكار وطرابلس، تحكي عن الغياب الكبير، والتخبط الواسع، كنتيجة لغياب الحريري عن المعترك الانتخابي.
هذا التفسير يقابله رأي مختلف تماماً. رأي، يعتبر أن كثرة اللوائح وتعدد الترشيحات يعبر عن “حرية سياسية” يعيشها السنّة، بعد أن كان تيار المستقبل عائقاً أمام خيارات الناس بالترشح، والوصول إلى البرلمان. وآخرون من تيار المستقبل، وجدوا الفرصة سانحة للترشح بعدما حرموا منها على لوائح “التيار الأزرق”.
منافسة على القيادة
سيكون بديهياً، بحسب التركيبة اللبنانية، أن يحاول بعض القيادات السياسية في الواقع السني ملء فراغ “الزعامة السنية”، الذي خلّفه سعد الحريري.
وبطبيعة الحال، إحدى أهم خطوات ملء الفراغ تكون عبر خوض الانتخابات النيابية، لتثبيت حجم التمثيل الشعبي.
لكنّ المفارقة، أن الفراغ السنّي فتح أيضاً شهية آخرين من خارج النسيج السياسي لهم. بعضهم كان يقف “على خاطر” سعد الحريري بعدم الاقتراب من الساحة السنية بوجوده، وبعضهم كان سعد الحريري يقف عائقاً أمام طموحاتهم بـ”مدّ يدهم” إلى الواقع السياسي السني.. لكن، في مطلق الأحوال، لم تكن لديهم لا القدرة ولا الحضور الذي يستطيع فرض وجوده في معادلة السنّة، بوجود مزاج سني يجتمع حول قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
غاب سعد الحريري، وأصبحت الساحة مفتوحة. وليد جنبلاط، رشح عفراء عيد، والتي تشغل منصب “وكيل داخلية الحزب الاشتراكي” في منطقة الشمال، على لائحة يدعمها الرئيس نجيب ميقاتي في طرابلس.
“التمدد الاشتراكي” إلى طرابلس، ترك استياء لدى أبناء المدينة، لأنهم يرون أن ميقاتي يشكل جسراً لعبور مرشحين حزبيين من خارج المكونات السياسية للمدينة.
كما انعكس هذا الانزعاج لدى قيادات تيار المستقبل من ميقاتي، خصوصاً أن جنبلاط حاول مراراً في زمن سعد الحريري، تسمية مرشحين في طرابلس وعكار، ولكن لم تتح له الفرصة لاعتبارات عدة، ومنها خصوصية المدينة التي تعتبر خزان “السنّة”.
جعجع يرد الجميل للحريري!
لكن، ما يعتبره “الشماليون” عامة، و”المستقبليون” خاصة، أسوأ ما أنتجه غياب الحريري، هو محاولة سمير جعجع اختراق أسوار طرابلس المرفوعة بوجهه.
هذه “الأسوار”، هي نتيجة تراكمات لها علاقة بتاريخ جعجع مع هذه المنطقة. هذا التاريخ، الذي يحفظ جيداً كم روحاً أزهقت عند “حاجز البربارة”، بناء على خانة الطائفة الموجودة على الهوية. هي الطائفة نفسها، التي يطمح جعجع أن يحجز المقاعد النيابية اليوم عبر أصوات أبنائها.
ولم ينس الطرابلسيون، جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، والتي صدر فيها حكم مبرم بالإعدام المخفف إلى السجن المؤبد من المجلس العدلي يدين سمير جعجع بعد كشف تفاصيل جريمة الاغتيال.
واذا كانت ذاكرة الشماليين تحفظ جيداً التاريخ القديم، فكيف لها أن تنسى الأمس القريب، وتحديداً الطعنات المتكررة التي سددها جعجع في ظهر سعد الحريري وما يمثل في الشارع السني، لم يكن التحريض على “إقامته” الملتبسة في السعودية واستقالته “الإجبارية” من الرياض أولها، ولم يكن تشجيع السعودية على التخلص من سعد الحريري آخرها.
اختلاف أسباب الخلاف مع القوات وجعجع، كان عامل تلاق غير مباشر بين جمهور التيار الأزرق وجمهور فيصل كرامي، والجمهور الذي لديه موقف حاد من “سمير جعجع” في طرابلس، أي “المزاج العام” في المدينة.
لا يخفى على أحد أن تيار المستقبل، شكّل، في انتخابات 2018، رافعة لـ”القوات اللبنانية” في الشمال، والتي أدت الى فوز مرشحها وهبي قاطيشها في عكار وساهم في إنجاح مرشحها في البترون. فالوجود القواتي في عكار، غير كاف لتحقيق تمثيل نيابي في البرلمان، كما أن الفوز في البترون مقابل جبران باسيل وسليمان فرنجية يحتاج إلى زخم “المستقبل”.
هذا الجميل، يردّه جعجع اليوم بمحاولة تثبيت نفسه كـ”زعيم” للسنة، أو شريك في الزعامة على أقلّ تقدير، عبر اختراق البيئة الزرقاء.
عملية الاختراق هذه، يحاول جعجع انجاحها بشتى الطرق، ومنها توظيف المال السياسي لتمويل الانتخابات، مستغلاً الفقر المدقع الذي تعيشه المدينة المنسية، بحيث عملت “القوات” على شراء العديد من الأصوات الإضافية لتأمين حاصل يحمل مرشحها في عكار الى مجلس النواب.
حصان طروادة!
بعد قراءة واقع الشارع المسيحي، يظهر جلياً أن “قيادة القوات” أيقنت أن نتائج الانتخابات فيه ليست كما تشتهي سفن جعجع، ولهذا يحاول “قائد القوات” جاهداً تعويض خسارته المسيحية في مناطق الفراغ السني، مستنداً على الدعم السعودي المطلق.
على ما يبدو، أن القوات اللبنانية نجحت في خلق “حصان طروادة” الذي يمكنها عبره اختراق أسوار طرابلس المرفوعة بوجهه. فاللائحة التي شكلها أشرف ريفي بالتحالف مع القوات اللبنانية، يحاول سميرجعجع أن يمرر من خلالها المقعد الماروني الوحيد في المدينة، مستفيداً من تماهي اللواء ريفي معه ومع “القوات”، سراً وعلانية.
يأتي ذلك، بالتزامن مع تناغم غير معلن بين سمير جعجع والرئيس فؤاد السنيورة، الذي شكل لائحة في طرابلس برئاسة مصطفى علوش، الصديق الشخصي لسميرجعجع، وتضمّ النائب “المستقبلي” سامي فتفت وآخرين لديهم علاقة شخصية مباشرة مع سمير جعجع، ومن الممكن أن تصب نتيجتها في مصلحة “القوات” في البرلمان.
كذلك في عكار، تم تشكيل لائحة بالتعاون مع النائبين السابقين طلال المرعبي وخالد الضاهر، في ظل تردد كلام عن مبالغ مالية طائلة دفعتها القوات لكل من المرعبي وضاهر لتشكيل هذه اللائحة وضمان فوز مرشحها عن المقعد الأرثوذكسي.
غضب “أزرق”: لن نكون “أهل ذمة”
هذا التناغم ومحاولة تثبيت حالة “القوات” في المدينة، أغضب قيادة المستقبل، وهو ما عبر عنه عضو المكتب السياسي للتيار هيثم مبيض، في تعليق له عبر حسابه على فيسبوك قائلاً: “ماحدا يتوهّم أو يفكر أن يرث تيار المستقبل، ولا يظن أحد أننا جمعية خيرية أو كاريتاس او شركة دليفري. فليعلم الجميع أننا مش أيتام على مائدة اللئام. نحن أساس في هذا الوطن ولن نكون أهل ذمة، وستثبت الأيام بأن تيار المستقبل لن يتخلى عن أهله وعن جمهوره، وسنبقى الى جانبهم، وسنكمل مشروع رفيق الحريري الذي استشهد من أجله”.
لا يُلام جعجع على محاولاته للحصول على أكبر عدد من المقاعد النيابية في الانتخابات المقبلة، فهو الذي بنى الآمال على حطام صرخات الناس المحقة في 17 تشرين الأول 2019، ظناً منه أن بعض الشعارات الرنانة، والخطابات الشعبوية ستعطيه صك براءة، أو ربما رائحة “الورق الأخضر”، ستزيل من ذاكرة الوطن عبق الدم الذي أريق على الحواجز بتهمة “الطائفة”.. ليخرج للناس “وطنياً” عابراً لحدود الطائفة!