الإنتخابات فوق جسر متحرّك!

/ جورج علم /

حسمها مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ عبد اللطيف دريان: “كل اللبنانييّن يجب أن يذهبوا الى صناديق الإقتراع”. أقفل الباب على الشائعات، والتحليلات. غادر قاعة الإنتظار، والتردد.

اكتمل “الإجماع الطوائفي” حول الإستحقاق الدستوري. الكل يريد الإنتخابات: من بكركي، الى دار الإفتاء، الى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الى دار الطائفة الدرزيّة، الى سائر مرجعيات الملل والمذاهب…

حصر المفتي الجدوى، بنقاط ثلاث:

  • “أنا لا أرى بأن معظم المرشحين من الطينة نفسها، بل الذي أراه أن كثيرين من المرشحين القدامى والجدد هم أهل همّة، وصلاح، وإرادة في التغيير”.
  • “الإنتخابات تضاهي في أهميتها شعار (لبنان أولاً) الذي نادينا به جميعا يوماً ما، ولا تزال له الأولويّة”.
  • “نذهب للإنتخابات معا، ونبادر لإنتاج البدائل معا”. مضيفاً: “هم سلاحهم الفتنة والتخويف، ونحن سلاحنا الإجتماع، والثقة بقدرة اللبنانييّن على الإصلاح، والإبداع فيه”.

حرّر بمواقفه الإنتخابات من الغموض. دعا الطائفة الأكبر الى الإقبال على الصناديق، ورفض المقاطعة، والإنكفاء. إنه المرجعيّة، صاحب المكانة، خصوصاً على المستوى العربي، والإسلامي، والخليجي، وتحديداً السعوديّ.

حرّر الإستحقاق الديمقراطي من الغموض.. لكن لم يحرّره من الإلتباس.

الإلتباس لا زال قائماً. هناك أصوات تضاهي من حيث مفاعيلها، أصوات سائر المرجعيات الروحيّة. إنها تلك  المرتفعة من فرنسا، وألمانيا، ولوكسمبورغ، وموناكو، وبلجيكا، ومن “وكالة التعاون القضائي الجنائي  التابعة للإتحاد الأوروبي (يوروجاست) التي تتحدث عن تبييض أموال، واختلاسات تتجاوز ال320 مليون دولار…

تقضي الموضوعيّة عدم الدخول في الأنفاق المظلمة، أو التحليلات المبنية على فرضيات، وغرضيات… لكن لا بدّ من الإقرار بـ”بناء جسر مالي” قد يؤدي بالإنتخابات الى سلوك طريق غير الذي تسلكه راهناً، والى أهداف آخرى، غير المرسومة لها!

يقوم هذا “الجسر” على وقائع، منها:

أولاً، إن الولايات المتحدة، ومن خلال سياسة العقوبات التي فرضتها على حزب الله، قد أسهمت في استحداث مؤسسة “القرض الحسن”… بعد مدّة وجيزة، أصبحت هذه المؤسسة أقوى مناعة من وزارة المال. وأي محاولة تقويض، أو تعطيل، ستواجه بقوة، وتتحول الى لغم كبير  قد ينفجر في ساعة لا يتوقعها كثيرون…

إن البلد المزنّر بالبؤس، والعابق بالفساد، محكوم بازدواجيّة مدمّرة. أصوات ترتفع منادية بوحدة المؤسسات، يقابلها إصرار على بيتين للمال، الأول أصيل، والثاني بديل، وقد أصبح البديل أكثر ثباتاً من الأصيل!

ثانياً، أن الدائرة المرسومة حول حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، وشقيقه رجا، تتكاثر فيها علامات الإستفهام، وتفتح المزيد من الأبواب نحو المجهول.

لا مكان للإجتهاد، والتوقع. ولا دور لقارئة الفنجان عند قوس القضاء. لكن العدالة لا يمكن ان تكون بوجهين، ولسانين، ومعيارين… وبانتظار الوضوح، لا بدّ من التوقف عند لازمتي بكركي:

الأولى، إن الفساد لا يقتصر على شخص، بل على منظومة، وهذه تضمّ العديد من الشركاء المتشاركين، المتكافلين، المتضامنين، المتوافقين على “الزلع” و”البلع”، والجمع، والقسمة. والجميع أمام القانون سواسيّة، ولكن لا سواسيّة أمام القانون في لبنان، بل  فئويّة وإستنسابيّة…

الثانية، إن البطريرك الماروني تحدث عن “تسييس في القضاء”، وعن “تلفيق اتهامات، ودعاوى مسيّسة وانتقائيّة، وعن إستغلال السلطة لبعض القضاة”… البطريرك يرفض “الانتقائيّة” في العدالة، وما لم يقله شخصيّاً، قاله غيره: “لوكان رجا سلامة من طائفة أخرى، غير الطائفة المارونيّة، هل تجرأ أحد على الزجّ به وراء القضبان؟”…

ثالثاً، إن التدقيق المالي الجنائي الذي تتولاّه شركة عالمية مشهود لها بكفاءتها، قد كشف فراغات، وثقوباً سوداء تحوم حول العديد من الأسماء، والوجوه ـ الرموز. و”المشكلة التي يتحدث عنها دبلوماسيون كبار ملموّن ببعض الحقائق، يشخصونها بالآتي: لقد بدأت عمليّة تذويب الثلج، وذوبان الثلج المتراكم  سيؤدي الى فيضان في النهر اللبناني، وفيضان النهر لن يجر رياض سلامة وحده، بل العديد من المنغمسين بوحول الفساد، ونهب المال العام”…

رابعاً، أن المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تحوّلت الى مسلسل مترابط الحلقات: الإصلاحات، الموازنة، الكابيتل كونترول، تحديد الخسائر المالية، وكيفيّة توزيعها، أموال المودعين، النظام المصرفي اللبناني بوجه عام، دور مصرف لبنان، والهندسات المالية لحاكمه… لكنها جميعاً، لا تشكل خارطة الطريق المؤدي الى النهوض الإقتصادي. النهوض في مكان آخر، لا يبدأ إلاّ عندما يتأكد صندوق النقد من وضع يده بقوة على كامل مفاصل الإقتصاد اللبناني. إنه صنيع الدول الكبرى المتمكّنة والممولة، وهذه ليست بجمعيات خيريّة، بل تريد الوصول الى اقتصاديات الدول المحتاجة، والإستثمار فيها وفق دفتر شروطها، وهذا ما يدفع بحزب الله لأن يكون حذراً من أي استهداف قد يصيبه من خلال صندوق النقد، إذا ما تمكّن من أن يحتلّ موقع قدم له في لبنان.

… ولهذه الأسباب، وغيرها، يبدو ان “الجسر المالي المتحرّك”، قد يطيح بالإنتخابات، ويدفعها بإتجاه منحى آخر لا نستطيع معه “أن نبادر لإنتاج البدائل معاً”…