| غاصب المختار |
في غياب أي تحرك عربي، واقتصار محاولة تبريد جبهة الجنوب وفصلها عمّا يجري حول غزة، على موفدين أميركيين وأوروبيين، برز تحرك مصري على خط لبنان بالتوازي مع الانخراط الكامل للقاهرة في مفاوضات الدوحة، ليس باعتبارها معنية فقط بما يجري في القطاع الملاصق لحدودها وانعكاس مجازر “إسرائيل” وتوجهاتها حول كيفية إدارة القطاع بعد الحرب على الأمن القومي المصري، بل لأن مصر قررت العودة إلى ساحة الفعل العربية والإقليمية حتى لا تكون أي حلول لمسألة غزة على حساب مصالحها القومية، لا سيما في ظل السياسة الغربية التي تطلق يد الكيان الإسرائيلي في تحقيق كل ما يريده.
كان واضحاً كلام وزير الخارجية المصرية بدر عبد العاطي في لقاءاته في بيروت، قبل يومين، بأن مصر “تعتبر أمن لبنان واستقراره مصلحة مصرية وعربية، وأن لبّ الصراع في هذه المنطقة هو استمرار القضية الفلسطينية من دون حل، وباستمرار عدم حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة”. إضافة إلى إعلانه رفض مصر للسياسة الإسرائيلية القائمة على قصف المدنيين والاغتيالات.
لكن المسعى المصري، وحده، يبدو قاصراً عن فرض الحلول المقبولة من دون ضغوط أميركية وأوروبية قوية ومؤثرة على كيان الاحتلال الإسرائيلي، لإقناعه بعدم عرقلة مفاوضات وقف الحرب.
في رأي خبراء متابعين للوضع في غزة وجنوب لبنان منذ سنوات وليس بعد “طوفان الأقصى” فقط، أن ذهاب الكيان الإسرائيلي إلى أبعد حد في محاولته إبادة الشعب الفلسطيني بات امراً عادياً عنده لم يعد بإمكانه التراجع عنه، تماماً كما حصل في الدول التي استعمرتها دول كبرى وأبادت سكانها الأصليين. وبات لا يمكن ردع هذا الكيان عن تغوّله في استباحة الدم الفلسطيني واللبناني والعربي عموماً، إلّا باللغة التي يفهمها، وهي القوة، لا الدبلوماسية فقط. وهذه التجربة التاريخية أدركها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر منذ ستينيات القرن الماضي بقوله “ما اُخِذَ بالقوة لا يُسترَدُّ بغير القوة” وباشر اعادة بناء قدرات مصر العسكرية بعد حرب العام 1967 انطلاقاً من هذا المبدأ.
لكن ليس بالضرورة ان يكون اليوم أشبه بالأمس، فمصر اليوم غير مصر ما بعد حرب عبور قناة السويس وتحرير سيناء عام 1973. والظروف والمؤثرات الدولية مختلفة عمّا كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي الذي أعاد بناء قوة وقدرات الجيش المصري ووقف إلى جانب مصر سياسيا وفي كل المجالات، قبل أن يذهب الرئيس الراحل أنور السادات إلى اتفاقية “كامب ديفيد” بعد حرب تشرين. ومصر، اليوم، لا يمكنها التأثير منفردة على أوضاع المنطقة من دون تفاهمات مع دول أخرى غربية وعربية، لا سيما بعد خروج سوريا والعراق والجزائر من دائرة التأثير نتيجة حروب الإرهاب والتدمير التي افتعلها الغرب بحق هذه الدول وغيرها.
يمكن لمصر أن تساهم في ترتيب الحلول، لكن لا يمكنها أن تفرضها وحدها من دون إقناع أميركا وأوروبا بوجهة نظرها. ولا يمكن لمصر أيضاً أن تعطل الحلول التي لا تناسب مصالحها، لا سيما في مسألة قطاع غزة، وما يمكن أن يستتبعه الحل إذا كان لمصلحة “إسرائيل”.
ويبقى المهم أن مصر عادت إلى لعب دورها التاريخي، وإن لم يكن كقائدة للأمة العربية، لكنها على الأقل كدولة عربية مؤثرة وقادرة على الفعل.