بعد مضي أربع سنوات وثلاثة أشهر على توقّف لبنان عن سندات اليوروبوندز، ما زال هذا الملف مُعلّقاً، إذ لم يُقدِم أيّ من الأطراف أصحاب المصلحة فيه على أي خطوة، وإن كانت هناك معلومات تشير إلى أن الدائنين يجهّزون لرفع دعاوى على لبنان أمام محاكم نيويورك.
وفي المقابل، لم تتحرّك الدولة بعد حتى لفتح باب التفاوض مع الدائنين. بشكل عام، ملف اليوروبوندز هو جزء من أي حلّ ستتخذه الحكومة اللبنانية مستقبلاً. وهو ملفّ لا يمكن التغاضي عنه لأنه مؤثّر في المرحلة اللاحقة لبداية التعافي. فتُشكّل اليوروبوندز الجزء الساحق من الديون المُسجّلة على الدولة اللبنانية، إذ تبلغ حصّتها من الدين العام نحو 89%، إذا احتُسبت على سعر صرف يقابل سعر الدولار في السوق. وهذا يظهر أهمية التعامل مع سندات اليوروبوندز على أنها مشكلة لا بُد من التطرّق إليها. فهي العقدة الأكبر في مشكلة نسبة الدين العام مقارنة بالناتج المحلي، إذ يُشكّل حجم الدين اليوم نحو 177% من الناتج المحلّي الإجمالي، الذي يبلغ نحو 19.9 مليار دولار في عام 2024 بحسب تقديرات البنك الدولي.
أي طرح للحلّ الشامل في لبنان، سيطاول مستويات الدين العام المرتفعة، سواء كان هذا الحلّ يضمّ اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي، الذي يطلب بشكل واضح أن تكون مستويات الدين العام إلى الناتج المحلّي «مستدامة» (أقلّ من 100% من الناتج المحلي لفترة متوسطة المدى على الأقل)، وحتى إذا كان الحلّ خارج إطار برنامج مع صندوق النقد، لا مفرّ من الحديث عن الدين العام ومستوياته. فمن الواضح أن الحكومة اللبنانية غير قادرة على الإيفاء بدفعات اليوروبوندز المُستحقة عليها. لذا، لا مفرّ أمام الحكومة إلا التفاوض مع الدائنين لإجراء اقتطاع على أصل مبلغ هذه السندات. وبما أن المستويات المستدامة لسندات اليوروبوندز بالنسبة إلى لبنان تبلغ ما بين 90% و110% من الناتج المحلّي، يمكن اقتطاع نسبة من اليوروبوندز (لأنها تشكل الجزء الأكبر من الدين العام) من أجل خفض الدين العام إلى المستوى المذكور.
مع افتراض أن هذا الأمر سيحدث في السنة الحالية، وأن الهدف هو خفض الدين العام ليُصبح 100% من الناتج المحلّي (مُعدّل وسطي بين 90% و110%)، يمكن احتساب حجم الاقتطاع المطلوب من سندات اليوروبوندز بنحو 16 مليار دولار، أو نحو 51% من القيمة الاسمية للسندات التي تبلغ قيمتها الاسمية اليوم 31.3 مليار دولار. يبقى بعد ذلك نحو 15 مليار دولار من سندات اليوروبوندز. لكن الواقع أن الفوائد المتراكمة على سندات اليوروبوندز تبلغ 12 مليار دولار، أي أن مجموع السندات يبلغ 43.3 مليار دولار، كما أن الاستدامة لمدّة خمس سنوات يجب أن تأخذ في الاعتبار مستويات النموّ المتاحة للاقتصاد المحلي، مع أسعار الفوائد التي ستتراكم على السندات في هذه الفترة. التقديرات تشير إلى أن الحدّ الأدنى المطلوب للحفاظ على الاستدامة لا يقلّ عن 15 مليار دولار من القيمة الاسمية للسندات مع فوائدها. وبالتالي فإن الاقتطاع الفعلي أو «الهيركات» لا يجب أن يقل عن 24.3 مليار دولار، أو ما يوازي 56%. وهذه الحسبة ليست دقيقة، إنما هي استرشادية فقط، إذ قد تكون معرّضة لمزيد من الارتفاع بمجرد إدخال عوامل اقتصادية ومالية عن التوقعات المستقبلية للقطاع المصرفي مثل القروض والأصول وقدرة النشاط الاقتصادي على النموّ بالإضافة إلى قدرة الحكومة على السداد وفرض الضرائب.
إجراء كهذا يحتاج إلى ورشة شاملة، تشمل القطاع العام، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي الذي سيتكبّد خسائر محقّقة في هذه الحالة، إذ إن المصارف اللبنانية تحمل نحو 11 مليار دولار من اليوروبوندز (مع العلم أنها اتّخذت مؤونات من احتياطاتها لتغطية خسارة نحو 9 مليارات دولار من القيمة الاسمية لليوروبوندز التي تحملها)، كما يحتاج إلى مفاوضات جادّة مع حملة السندات في الخارج الذين يستطيعون أن يقاضوا الدولة اللبنانية في حال عدم التوصّل إلى اتفاق معهم.
مستويات الدين مهمّة على صعيد صحّة المالية العامّة للبلد، التي يمكن أن تُشكّل، مُستقبلاً، مصدراً لتحفيز الاقتصاد. وهذا من خلال الإنفاق الاستثماري، الذي يمكن أن يؤمّن بنى تحتية مهمة للحركة الاقتصادية المستقبلية. مع مستويات الدين المرتفعة، سيكون جزء كبير من إيرادات الدولة مخصّصاً لخدمة الدين وسداده، وهو ما يحرم الاقتصاد من الاستثمارات العامّة في مختلف المرافق، من الكهرباء والمياه إلى النقل والصحة وغيرهما.