/ جورج علم /
أكدّ الموقف اللبناني الرسمي من الأزمة الأوكرانيّة، على واقع حالنا، ومصادرة قرارنا.
بدأت الرواية مع وزير الخارجيّة والمغتربين الدكتور عبد الله بو حبيب بثلاث مفردات: “يحترم لبنان سيادة الدولتين. يدعو الى وقف لإطلاق النار، وإعتماد الحوار لمعالجة الخلافات”.
بو حبيب الذي خاض تجربة دبلوماسيّة ناجحة منذ كان سفيراً للبنان لدى الولايات المتحدة، يعرف مدى حساسية المركب اللبناني، المتهالك، المبحر فوق أمواج التناقضات المحليّة ـ الإقليميّة ـ الدوليّة، ويعرف كيف يصيغ موقف الحياد الإيجابي، لكن الديمقراطيّة التوافقيّة تفرض معاييرها المتمرّدة على الدستور ودولة المؤسسات، وكان لا بدّ من أن يُمرّر إقتراحه الى كلٍّ من رئيسي الجمهورية، والحكومة.
الرئيس نجيب ميقاتي، بدوره، كان محاصراً من جهات أربع:
- وفد صندوق النقد الدولي كان لا يزال في مكتبه في السراي يناقش سبل مساعدة لبنان. صندوق النقد هذا مُسيَّر بإرادة أميركيّة ـ أوروبيّة ـ غربية لها موقف واضح من العمليّة العسكريّة ضد أوكرانيا.
- ترسيم الحدود البحرية ملف ساخن. طحينه أصبح في المعجن الأميركي بإشراف آموس هوكشتاين.
- الغاز المصري، والطاقة الكهربائيّة من الأردن عبر “قانون قيصر” في الأراضي السورية، صناعة أميركيّة، ووزير الطاقة يبشّرنا بالخير العميم خلال شهر أو شهرين.
- دعم المؤسسات الأمنية، من جيش، وقوى أمن، للحفاظ على الجهوزيّة، بعدما عضّ الفقر الرغيف، “صناعة أميركيّة ـ أوروبيّة ـ غربية بإمتياز”، دون إغفال دعم بعض الدول الشقيقة والصديقة.
على وقع هذا الحصار “المربّع”، وصل عصف الأفكار الى السراي، فيما كان الاستنفار الدبلوماسي الغربي على أشدّه، تقوده السفارتان الأميركيّة والفرنسيّة، الى جانب البعثات الدبلوماسيّة الأوروبيّة، للدفع بموقف لبنان من “الحياد الإيجابي”، الى “الإدانة”، مع تسطير رسائل غير وديّة تفوح منها روائح “العقوبات”!
كان على الرئيس ميقاتي أن يُوازِن بين المبدئيّة، والضرورات المصلحيّة، وكان النقاش يدور حول كلمة واحدة، هل يجب أن تحذف “الإدانة” من البيان الرسمي، أم تبقى؟… إنتصر منطق السفارات على منطق المسلمات التي تحكم سياسة لبنان الخارجيّة.
رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، كان شريكاً فعليّاً في صياغة الموقف، لكن بـ”الإنابة”، كلّف أحد مستشاريه ليكون حاضراً الى جانب رئيس الحكومة، ووزير الخارجيّة، انطلاقاً من قناعة لديه بأن الحكمة، والإعتدال، وحماية المصالح، تفرض الوسطيّة، والحياد الإيجابي… إلاّ أن الرياح هبّت بما لا تشتهي سفن بعبدا…!
… وماذا بعد؟
ما طفى على السطح خطير، قد ينسف الإنتخابات، ويطيح بالإستحقاقات، ويأخذ المركب اللبناني المتهاوي بعيداً عن شاطىء الأمان.
أولاً: إن بيان السفارة الروسيّة ليس “فقاعة صابون”، ولا من نوعيّة “موقف.. وانتهى..”، بل إنه مصكوك محبوك بعبارة “يبنى على الشيء مقتضاه”.. و”مقتضاه” هنا، يشمل العلاقات الثنائيّة بين روسيا ولبنان بكل مجالاتها، ووجوهها، وأبعادها… كما يشمل قيام محور دبلوماسي على طول خطوط التماس وسط بيروت ضد محور آخر… والساحة من الآن فصاعدا لن تبقى حكراً على السفارات الغربيّة، وإعلامها، بل هناك مقابل وازن ، فاعل، مؤثر، ومقتدر بدأ يرخي بثقله في الميزان اللبناني، تتقدمه السفارة الروسيّة، ولفيف المحور الداعم، والمؤازر، وهو ليس بالقليل إذا ما أخذنا بعين االإعتبار الإنقسام الجيوسياسي الذي أحدثه التصدع الروسي ـ الأوكراني، ،حيث وقف الصيني والإيراني الى جانب الروسي، في المواجهة مع الغرب الأميركي ـ الأوروبي.
ثانياً: إن روسيا في حميميم، وطرطوس، وعلى مسافة أمتار من الحدود الشماليّة. هذا يعني ـ وفق قراءة دبلوماسيّة أوليّة ـ بأنها، وفي ظلّ تحالفها الإستراتيجي مع دمشق، تصبح هي ـ لا الولايات المتحدة ـ المتحكم الأقوى بمسار، ومصير الغاز المصري، و”التيار” الأردني، إلى لبنان عبر الأراضي السوريّة… هذا الموضوع بدأ يقلق المسؤولين من أعلى الهرم الى القاعدة…
ثالثاً: زار رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون موسكو رسميّاً في 26 آذار 2019، وطلب من الرئيس فلاديمير بوتين المساعدة على إعادة النازحين السوريين الى بلادهم، نظراً لما للرئيس الروسي من رصيد كبير لدى دمشق. وتوالت مواكب العديد من الشخصيات اللبنانية الرسميّة على زيارة موسكو، إما بدافع “المصلحة الشخصيّة”، أو بدافع المصلحة العامة، وكانوا يتحدثون بعد عودتهم عن “تفهّم، وتعاطف، وتلبية فوريّة للعديد من المطالب، والعروض…”. هل يستطيع البيان اللبناني الرسمي أن يسهّل عودة النازحين، أو يعالج العديد من الملفات المطروحة عند تخوم موسكو، وجديدة يابوس، بعد فعل “الإدانة”؟!
رابعاً: لم يحمل فريق لبناني قوي، ونافذ، العصا من وسطها، بل أمسك بها من طرف واحد، وراح يلّوح بالثبور، وعظائم الأمور، مستنداً من جهة الى الفرز الجيوسياسي االجديد في المنطقة على وقع الزلزال الروسي ـ الأوكراني، وأيضا الى الشروط الجديدة التي وصلت الى طاولة فيينا النووية، حول ما هو المطلوب من الغرب الأميركي ـ الأوروبي المفاوض للتوصل الى إتفاق، وما هو غير المرغوب.
… وبإختصار شديد: إن الموقف الرسمي اللبناني قد أشعل خط التماس وسط العاصمة بين محورين كبيرين: أميركا، ومن معها. وروسيا، ومن معها. مع التأكيد المؤكد بأن الإستحقاق الإنتخابي لم يعد تحت معاطف “المظلّة” الأميركيّة ـ الغربيّة، بل أصبح وحيداً عرياناً على خط التماس، وجهاً لوجه مع المحاور المقابل… ولبنان الساحة، مجرد دمية تتقاذفها قوائم الأفيال المتصارعة على أرضه!