تنسيق أميركي ـ إيراني جديد.. لوقف التصعيد؟

| جورج علم |

بين مطرقة “الإسناد”، وسندان “الإنسداد”، ينزف الوطن. يلفظ أنفاسه. ويوزّع بقايا من روحه ومضات أمل، لعلّ وعسى تسعفه المتغيّرات، فيما يملأ العدو الإسرائيلي فضاءه الإعلامي بتهديدات تعيده إلى “العصر الحجري”. لكن لو كان بالمقدور أن يُقدم، لما أحجم، أقلّه لغاية الآن.

ومع إرتفاع وتيرة التهديد والوعيد، يتراجع الحديث عن مبادرات إنقاذيّة. وعن حراك موفدين، أو نشاط للجنة الخماسيّة، ليقتصر على تحليلات، وتوقعات، وتمنيات.

السؤال الملّح: متى يتحوّل التهديد إلى فعل؟ وهل يملك العدو حريّة التصرّف، أم تعترض طريقه روادع، وحسابات، وسقوف عالية، ومصالح دوليّة متشابكة، يجب أخذها بعين الإعتبار قبل الإقدام، حتى لا تتحوّل خطوته إلى “دعسة ناقصة”؟

إن أي عدوان واسع، يفترض أن يكون بداية لحقبة جديدة، ومدخلاً لحلّ ما، أو جزءاً من خريطة طريق واضحة المعالم، ومذيّلة بتواقيع دول مؤثّرة كضمانات. ولا يمكن أن يكون مجرّد نزوة، أو فورة إنفعال ناجمة عن ضيق صدر، وضيق تبصّر. إنه ـ في حال حصوله – يعني إنتقال لبنان من “جبهة مساندة”، إلى “جبهة مواجهة”. ولا يقتصر الأمر هنا على من يدمّر أكثر، بل على اليوم التالي عندما يذوب الثلج، وينكشف المرج بكوارثه، ونواقصه.

ويكفي البيت اللبناني، المتهالك، أن يكون محاطاً بسقوف إقليميّة – دوليّة. وأيّ عدوان قد يحصل سيرسم علامة استفهام حول ما يجري تحت السقف الأميركي – الإيراني. واشنطن حذّرت “إسرائيل”. وتقول إدارة البيت الأبيض إنها أبلغت تل أبيب معارضتها الشديدة لأي مغامرة عسكريّة. طهران، صاحبة الحسابات الخاصة، غير بعيدة عن هذا التوجه. تدمير البيت اللبناني ستترتّب عليه مضاعفات لن تخدم بيئة المقاومة، وأولوياتها في الداخل والخارج، وتحالفاتها الإستراتيجيّة.

وفاعليّة هذا السقف كانت ماثلة في الماضي القريب، وجنّبت الشرق الأوسط مواجهة إسرائيليّة ـ إيرانيّة مدمّرة. والدليل أن 300 مسيّرة تنطلق دفعة واحدة، ولا تصيب الكيان المحتل إلاّ بأضرار طفيفة، هذا يعني وجود قطب مخفيّة، وتنسيق معقّد غير معلن. حتى أن ردّة الفعل ألتي استهدفت أصفهان، كانت مدروسة بالشكل والمضمون، حرصاً على الإنضباط العام في الشرق الأوسط؟ فهل يُسمح للإسرائيلي الملتاع من جبهة الجنوب أن يفجّر هذا الإنضباط، إنطلاقاً من تفجير لبنان؟

ربما الأمر متوقف على مستجدات اليوم التالي. وهل ستبقى جبهة “الإسناد” مفتوحة في الجنوب، أم تتحوّل إلى جبهة حرب أميركيّة ـ إيرانيّة بالوكالة يدفع لبنان ثمنها غاليّاً ممّا تبقّى له من مقومات وطن، وجوامع مشتركة؟!

هناك تباينات في الموقف ما بين واشنطن وتل أبيب حول غزّة، ومواصفات اليوم التالي، والمستقبل الأمني، والسياسي، والإقتصادي للقطاع، ومصير “حماس”. لكن في ما يتعلق بلبنان، الأمر مختلف، ويخضع لحسابات دقيقة. إذا إقتصر العدوان على التدمير فقط، فهذا لا يحقّق أي مكاسب أمنيّة، وسياسيّة، ومعنويّة لتل أبيب، بل يأتي بنتائج عكسيّة، كأن يفجّر بركاناً من ردود الفعل الدوليّة الغاضبة، ويزيد من مداميك العزلة حول الكيان المحتل. أما إذا أسفر العدوان عن تغيير ما على الأرض. عن حالة جديدة تفرض نفسها كأمر واقع، فهذا يعني أن تبدّلاً قد حصل في السقف الدولي ـ الإقليمي، وهذا التبدّل سيكون محاصراً بعلامات استفهام كبرى حول كيفيّة الخروج من شرنقة الفراغ، والتمزّق، والفوضى، في أي اتجاه؟ ونحو أيّ لبنان؟

• قد يكون التبدّل بالعودة إلى معادلة 31 أب 2006. أي “ستاتيكو” على طول الشريط الحدودي. لكن مثل هذا الإحتمال مرفوض داخليّاً على الأقل، وستكون له تداعيات على ما تبقى من وحدة أرض، وشعب، ومؤسسات. فهل يكون الهدف البدء بتنفيذ مشروع تغيّير الخرائط؟

• قد يكون التبدّل باتجاه قيام ترتيبات أمنيّة، وسياسيّة، وإقتصاديّة، وإنمائيّة في الجنوب، تحاكي بيئته الإجتماعيّة، وتراعي خصوصيته الجغرافيّة. وهناك سابقة يبنى عليها عندما تمّ التوصل إلى تفاهم موثّق على ترسيم الحدود البحريّة في الناقورة، إن ما جرى في حينه قد أكدّ وجود وصفة كيميائيّة جمعت “الأعداء” حول “مصالح مشتركة”. إن هذه السابقة يمكن أن تتكرّر، بكيميائيّات جديدة مستحدثة، لترسيم الحدود البريّة ، وقيام لامركزيّة موسّعة، يمكن تعميمها على سائر المناطق اللبنانيّة.

• وقد يكون التبدّل أبعد.. وأبعد، إلى حد يمكن معه إلحاق لبنان بقطار التطبيع، خصوصاً إذا ما دخلت المملكة العربيّة السعوديّة المقصورة، وتحت إبطها ضمانات أميركيّة ـ أمميّة ـ دوليّة تعترف بقيام دولة فلسطينيّة وفق مرتكزات “حل الدولتين”.

ويبقى الثابت الوحيد أن لبنان أمام منعطف مصيري. هل من خطّ بيانيّ جديد بين واشنطن وطهران يمتدّ على طول الجبهات المشتعلة من غزّة إلى البحر الأحمر، ويدخل لبنان حكماً تحت معطفه؟ إنه خيار جدّي بدأت تظهر ملامحه في الفضاء الدبلوماسي. وهناك حديث عن “رسملة” إيرانيّة محتملة لخطة بايدن بشأن غزّة، على أبواب الإنتخابات الأميركيّة.

وإن نتنياهو يهددّ بتدمير لبنان ليحسّن شروطه مع الأميركان!

وهناك مسعى سعودي ـ قطري ـ إماراتي لدى واشنطن، وباريس، وموسكو، وبكين، يرمي إلى تفعيل دور “الخماسيّة” عن طريق فتح خطّ تنسيقي مباشر مع إيران، لتوفير مظلّة أمان للبنان، والعمل بجديّة على انتخاب رئيس يواكب مسار وقف إطلاق النار الذي ينطلق قطاره من غزّة، ليشمل سائر جبهات “المساندة”.