| نعمه نعمه |
يُدعم التعليم الخاص بمساهمات من الخزينة العامة من دون إخضاع المدارس الخاصة للرقابة المالية والتدقيق وضبط الأقساط. ومن المفارقات أن تبلغ التقديمات المدرسية المباشرة أو من خلال الصناديق والمصالح والمؤسسات العامة أكثر من ضعف موازنة التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية.
رفعت تعاونية موظفي الدولة قيمة المنح المدرسية خمسين ضعفاً لتتناسب مع ما تفرضه المدارس الخاصة «المتوسطة» الكلفة من أقساط. وستنسحب هذه الزيادة على الصناديق الضامنة الأخرى كالضمان الاجتماعي وتقديمات القوى الأمنية وغيرها، ما يعزز أرباح المدارس الخاصة التابعة بمعظمها لمؤسسات طائفية وحزبية، وأكبرها شبكة المدارس الكاثوليكية التي تضم وحدها نحو 40% من تلامذة المدارس الخاصة غير المجانية.دعم الخزينة للتقديمات المدرسية لموظفي الإدارة العامة والمؤسسات والمصالح العامة ليس جديداً. فقد أُقر نظام المنح بعد الاستقلال كتسوية للصراع الذي كان قائماً بين حكومة الاستقلال والمدارس الطائفية آنذاك. لكننا، منذ عقدين، فقدنا كل الآليات الرقابية على الأقساط في المدارس الخاصة، ما رفع قيمة المنحة المدرسية تدريجياً بأضعاف نسب التضخم أو الزيادات الهزيلة التي طاولت الرواتب في العقود الماضية. ومع الأزمة الأخيرة، تضاعفت قيمة الأقساط حتى لم تعد الرواتب تتناسب مع قيمة المنحة المدرسية التي صارت تتجاوز الراتب السنوي للموظف في القطاع العام.
وتضمّنت موازنة 2024 بنوداً عدة تحت مسمى منح مدرسية ومنح للطلاب ودعم صناديق، من دون أي تفاصيل حول حجم التقديمات المدرسية في المصالح والمؤسسات العامة التي تُموّل من الرسوم والاشتراكات، وليست معروفةً قيمتها الفعلية، ولكن من المتعارف عليه أنها تغطي نحو 80% من قيمة القسط في المدارس الخاصة غير المجانية.
وتبلغ قيمة التقديمات المدرسية للعاملين في القوى الأمنية والمتقاعدين العسكريين أكثر من 14 ألف مليار ليرة (158 مليون دولار) ومنح الطلاب (طلاب المعاهد الزراعية والمهنيات) 1.19 مليار ليرة (12.5 ألف دولار). أما مساهمات الدولة في صناديق التعاضد فتبلغ 17.4 ألف مليار ليرة (195.5 مليون دولار)، نحو 14 ألف مليار ليرة (158 مليون دولار) منها لصندوق تعاونية الموظفين، تُخصص نسبة كبيرة منها لمنح التعليم. وفيما لا توجد أرقام محددة للتقديمات المدرسية في المصالح والمؤسسات العامة التي تموّل صناديقها بشكل أساسي من الرسوم والاشتراكات كالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومصرف لبنان ومصلحة الريجي وكهرباء لبنان والقضاة والنواب وغيرهم، تشير التقديرات إلى أن الرقم يزيد على 100 مليون دولار كون هذه المؤسسات تغطي نسباً عالية تصل إلى 90% من القسط أحياناً.
واللافت أن موازنة وزارة التربية ومن ضمنها الجامعة اللبنانية تبلغ 18.8 ألف مليار ليرة (210 ملايين دولار). والملاحظ في هذه الموازنة أن التقديمات المدرسية المباشرة أو من خلال الصناديق والمصالح والمؤسسات العامة تبلغ أكثر من ضعف موازنة التعليم الرسمي المدرسي والجامعي. أما بند رواتب الإدارة العامة للموظفين الدائمين فيبلغ 27.8 ألف مليار ليرة، وتبلغ مساهمة الدولة في تعاونية الموظفين أكثر من نصف قيمة الرواتب.
تشير هذه المقارنات إلى خلل كبير في توزيع المال العام، ولا سيما في ما خصّ قطاع التعليم، بحيث يتم تعزيز التعليم الخاص بمساهمات من الخزينة من دون خضوع المؤسسات التعليمية الخاصة للرقابة المالية والتدقيق وضبط الأقساط.
هكذا، تمرر الحكومات منذ عقود دعماً مالياً للمدارس والجامعات الخاصة من خلال موظفي الإدارة العامة وعدم ضبط الأقساط ومراقبتها والتدقيق فيها، ومن خلال رفع قيمة التقديمات المدرسية من دون أن يترافق ذلك مع رفع أجور ورواتب المعلمين والموظفين. ويبدو هذا اتفاقاً من تحت الطاولة بين الحكومة والمدارس الخاصة تتضح معالمه اليوم. فتوجيهات رئيس الحكومة غير المعلنة لتعاونية الموظفين برفع التقديمات المدرسية تعني حتماً أن بقية الصناديق والتقديمات المدرسية سترتفع، فالحكومة أغدقت المال والتقديمات على الصناديق، وبدل وضع أو تفعيل آليات الرقابة، ذهبت إلى رفع التقديمات المدرسية من دون أن يطاول ذلك رواتب المعلمين والمتقاعدين في القطاع الخاص والرسمي، أو تعزيز الحماية الاجتماعية والصحية للموظفين والقوى الأمنية والمعلمين بينما الخزينة تُموّل من ضرائبهم ونشاطهم الاقتصادي.
من يستفيد من رفع التقديمات؟ التقديرات تشير إلى أن نحو 30 إلى 40% من الملتحقين بالمدارس الخاصة هم من أبناء الموظفين في القطاع العام ويحصلون على منح تعليم من الدولة. فهناك 37 ألف موظف في الإدارة العامة والمصالح والمؤسسات والملاك التعليمي تستفيد غالبيتهم من التقديمات المدرسية لتعاونية الموظفين (ما يقارب 70 مليون دولار)، كما أن القوى الأمنية والمتقاعدين (نحو 100 ألف) يستفيدون من منح وتقديمات مدرسية بقيمة 158 مليون دولار. وهناك الموظفون في المصالح والمؤسسات العامة الذين يستفيدون من صناديق تعاضد أو من رسوم واشتراكات، وهذه الفئة تحصل على منح تعليم تتجاوز نسبة 80% من القسط المدرسي.
وكما يبدو، فإن إدارة التعاونية رفعت التقديمات إلى حدود تغطية قسط كامل في المدارس المتوسطة الكلفة (نحو 2000 دولار)، أي الغالبية العظمى من المستفيدين من المنح. وباتت تغطي 80% من أقساط أبناء موظفي المؤسسات والمصالح. أما القضاة والنواب وموظفو الفئات العليا فأبناؤهم في مدارس النخبة المرتفعة القسط. ويلتحق أبناء العسكريين بمدارس رسمية ومدارس مجانية أو مدارس خاصة متدنية الكلفة.
وتظهر دراسة سابقة للبنك الدولي فنّدت توزيع المساعدات بحسب دخل الفئات الاجتماعية أن الفئة الأعلى دخلاً تستفيد من 47% من قيمة التقديمات المدرسية، بينما فئة الفقراء تستفيد من 16%. فقيمة التقديمات المدرسية لن تساهم في رفع مستوى الحياة والتقديمات الصحية والاجتماعية لدى العائلات بل ستصبّ في المدارس الخاصة وستعزز تسرّب التلامذة من التعليم الرسمي إلى التعليم الخاص.
فهل يشكل رفع التقديمات المدرسية تبريراً لرفع الأقساط في التعليم الخاص كجزء من مشروع لاستبدال التعليم الرسمي بالخاص؟ وإلا ما الذي يفسر أن تبلغ قيمة مساهمات الخزينة والضمان والمصالح والصناديق في التقديمات المدرسية وإيجارات المدارس الرسمية ودعم المهنيات الخاصة ودعم المدارس المجانية نحو ثلاثة أضعاف موازنة وزارة التربية والجامعة اللبنانية؟ بينما يمكن بالأموال نفسها إخراج التعليم الرسمي من هزاله وتفعيله وبناء وتجهيز مدارس وتأمين نقل وحياة كريمة للمعلمين والأساتذة ضمن خطة نهوض متكاملة للقطاع.
مجرد تفعيل الرقابة والتدقيق في موازنات المدارس الخاصة قد يخفّض الأقساط المدرسية بنسبة 30 إلى 70%. هذا ما خلصت إليه دراسة شركة بريطانية غير منشورة شملت 100 مدرسة خاصة في لبنان، ما يشكل وفراً لخزينة الدولة تعزز فيه المدرسة الرسمية.