ديبلوماسي “مصدوم”: كما تكونون “تدجّنون” من يساعدكم!

|جورج شاهين|

في موازاة الحراك الذي قاده سفراء الخماسية، تشهد البلاد طحشة ديبلوماسية مميزة لا يمكن تجاهلها. و بمعزل عن أهميتها فإنّها لم تعدل في موازين القوى الداخلية قيد أنملة. ففي ظلّ التسريبات عن إيجابيات بعد لقاء عين التينة، عززت المعلومات التي تلتها حجم التصلّب في المواقف من الوضع في جنوب لبنان وانتخاب الرئيس. وهو ما يثبت الفشل في الفصل بين الإستحقاقين وتحييد لبنان عن أزمات المنطقة بعد شل عمل الخماسية. وهذه هي المؤشرات؟

عندما يتخلّى الديبلوماسيون الذين «انغمسوا» طوعاً في البحث عن مخارج للأزمات اللبنانية بمظاهرها المختلفة عن عباراتهم «المختارة» لنسج مواقفهم «المنمّقة»، يمكن ان يسمع المراقبون منهم ما يقود إلى سيناريوهات كان يمكن ان تُعتبر «مستهجنة» لو انّها لم تحاكِ هواجس اللبنانيين ومخاوفهم مما هو آتٍ. فمعظمهم استسلم لحدثه، قياساً على حجم التجارب التي عبرت، وانتهت الى استحالة الوصول الى اي حل لمجموعة العِقَد المستعصية في ظل «الستاتيكو» السائد في المنطقة، وحجم الانعكاسات السلبية على ساحاتها، ولا سيما منها اللبنانية. فهي باتت في السنوات الاخيرة من «الساحات الرخوة» التي أضحت أسيرة الحرب المفتوحة بين المحاور الكبرى قبل عملية «طوفان الأقصى» وربما منذ ان اندلعت الأزمة السورية عام 2011 وما رافقها وما ادّت اليه من تحوّلات كبرى.

وفي ظلّ مجموعة السرديات عن المخارج الممكنة لمعاناة اللبنانيين بوجوهها المتعددة، لا يرى الديبلوماسيون حتى الأمس القريب أنّ في إمكانهم الفصل بين الاستحقاقين الأمني والرئاسي، وهو ما سيؤدي حتماً الى مزيد من التفاعلات السلبية في ظل قصور أهل السلطة عن توفير المقومات الضرورية التي يمكن الاستناد اليها في الطريق الى الحل، الى درجة انّهم باتوا من منتجي «الحلول الوهمية» التي يحاولون إغراق اللبنانيين في وحولها، والإيحاء بها من وقت الى آخر لتخديرهم وامتحان صبرهم على المعاناة التي نمت حتى «تكسّرت النصال على النصال».

ليس في ما سبق قراءة سوسيولوجية نموذجية لحياة اللبنانيين، بمقدار ما هي توصيف لواقع مؤلم لم يعد خافياً على أحد، وسط عجز الآليات المعتمدة للخروج من مجموعة الأنفاق العميقة التي توغلت فيها المشكلات وتجذّرت إلى ان استدعت استنفاراً دولياً، تارة بمبادرة داخلية طلباً للنجدة، أو نتيجة التطورات التي قادت الموفدين الى لبنان. وأولاها نتيجة الأزمة المالية النقدية التي تزامنت مع جائحة «كورونا» وتفجير مرفأ بيروت وما احدثته من تردّدات على حياة المواطنين. إضافة الى المخاوف الناجمة عن احتمال انتقال شرارات أزمات المنطقة وتفاعلاتها على ساحته الى بلدانهم، كما هو حاصل في ملف النازحين السوريين منذ العام 2011 بعد الفلسطينيين والعراقيين على مدى العقود الاخيرة.

على هذه الخلفيات، تلاحقت المبادرات الدولية وعُقدت المؤتمرات لمساعدة لبنان في تخطّي هذه الأزمات وتطويق نتائجها. فبعد تعدّد البعثات الدولية التي ساندت لبنان لاستيعاب نتائج تفجير المرفأ واعادة إعمار ما هدّمه ومساعدة اهالي الضحايا والمتضرّرين لتجاوز حصيلته التدميرية، تدخّل صندوق النقد الدولي من اجل مواجهة الأزمات المالية والنقدية لمساعدة اللبنانيين على وضع الاصلاحات المطلوبة، بعدما فشلت المبادرات السابقة. فكان مسلسل المبادرات الفرنسية والخليجية وتلك التي قادتها الجامعة العربية لمواجهة تردّدات الأزمة مع المملكة العربية السعودية خصوصاً ودول مجلس التعاون الخليجي عموماً، وصولاً الى إطلاق «لقاء باريس الخماسي» لتذليل العقبات التي حالت دون انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية وتقصير مهلة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، بعدما شُلّت بقية السلطات الدستورية والمؤسسات العامة وغابت خدماتها اليومية ما عدا العسكرية والأمنية المحافظة على نسبة عالية من الجهوزية نتيجة الخدمات المباشرة التي تجاهلت الروتين الإداري وآليات العمل الحكومي المتعثرة.

عند استعراض هذه التطورات السلبية، ووقائعها والمخاطر المترتبة على استمرارها من دون ما يؤدي الى لجمها واعادة تكوين السلطة، يتناول أحد الديبلوماسيين هذه المؤشرات ليعطي توصيفاً دقيقاً لها ولما يعوق تنفيذ ما وُجدت من اجله هذه الهيئات والمؤسسات والأهداف المنشودة وغاياتها الحميدة. ولذلك تقود صراحته الى محاكاة مخاوف اللبنانيين الذين لم يتلمسوا اي خطوات ايجابية. وعليه، فهو لا يكتفي بتبريرها فحسب، ولكنه – وبكل رحابة صدر – يتفهمها ويزيد عليها نتيجة معرفته بما يجري في الكواليس المحصّنة من اسرار وغايات شخصية دفينة يدفع ثمنها اللبنانيون من مختلف مناطقهم، على الرغم من الانقسام الحاد تجاه بعض الملفات الكبرى. فهي ما زالت مخفية على الرأي العام، ومحصورة بأصحاب العلاقة على خلفية أن لا مصلحة لهم ولو بنسب مختلفة في كشف حقائقها.

وإن تردّد الديبلوماسي عن الغوص في كثير من التفاصيل رغم صراحته وشفافيته، فقد اكتفى بالاشارة الى بعض المؤشرات التي انتهت اليها المعالجات. فيكشف اولاً انّ وفد صندوق النقد الدولي اتخذ قراراً كبيراً بالانسحاب من برامج المفاوضات مع السلطة في لبنان نتيجة التردّد، لا بل رفض تطبيق ما قالت به الاتفاقيات التي عُقدت على مستوى الموظفين الكبار في القصر الجمهوري منذ 9 نيسان 2022 وحتى اليوم. ويشير الى معلومات دقيقة لم يُعلن عنها بعد، عن إقفال مكاتب بعثة صندوق النقد الدولي في بيروت قبل أيام، وانتقال موظفيه الى قطر في مهمّة وصفت بأنّها مؤقتة، وإن قيست بالمنطق اللبناني، فكل مؤقت يدوم طالما انّ الفشل هو معيار أداء اهل السلطة اللبنانية.

 

وإن تطرق الديبلوماسي الى المبادرات الخارجية الفردية منها والجماعية، فهو يعطي المثل في عمل مجموعة «لقاء باريس الخماسي» التي ما زالت مع اقتراب الذكرى السنوية الاولى لانطلاقتها في العاشر من شباط الماضي، تبحث في «مواصفات الرئيس» من دون ان تقترب من اي اسم بنحو ثابت، رغم بعض المحاولات التي تمّ وأدها قبل ان ترى النور. وهم بدورهم اليوم يعانون من انقسام شبيه بالانقسام اللبناني، بين ثنائيات وثلاثيات حسب المواضيع المطروحة، وجاء تحرّكها الأخير لينتهي الى ما كانت عليه من رتابة نتيجة اكتشافها انّ شيئاً لم يتغيّر في لبنان. والدليل في الاجتماع الأخير مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، عندما سمعوا منه اصراراً على طاولة حوار تسبق جلسة الانتخاب، فيما هم انتهوا قبل فترة إلى نجاح تجربة الحوارات الثنائية أو الثلاثية التي حلّت من خلالها بعض العِقَد السياسية والأمنية، وآخرها تجربة التمديد لقادة الاجهزة الأمنية. وإن توقفوا امام اصرار «الثنائي الشيعي» على ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية، واستعدادات معارضيهم لتجديد التقاطع على الوزير السابق جهاد ازعور، تكون كل الجهود التي بُذلت قد تبخّرت، ويزيد في الطين بلّة إن كان موقف «حزب الله» معارضاً لأي طرح رئاسي او أمني جنوبي قبل بلوغ «اليوم التالي» في قطاع غزة.

وإن سألته عن الأجواء الايجابية التي تسّربت عقب اللقاء يقول هذا الديبلوماسي بكل صراحة «نحن ديبلوماسيون مهذبون، فإن طلب إلينا ان نوحي بهذا الجو لا نقصّر، ولكن الحقيقة في مكان آخر بعيد عمّا بث من أجواء، وانّ الايام المقبلة ستثبت ذلك». لينتهي معبّراً عن قلقه من قدرة اللبنانيين على تحمّل ما لا يتحمّله اي شعب «فهم قانعون بما كُتب لهم من قيادات سياسية، وانّ عليهم أن يقتنعوا بقدرة قياداتهم على تمييع كل الحلول والحؤول دون نهايات ايجابية، وخصوصاً إن تمكنوا من تطويع وتدجين الموفدين والمندوبين الدوليين، ليعجزوا عن تقديم أي عون ما لم يلاقوهم في منتصف الطريق. ونقطة عالسطر».