| رندلى جبور |
الآن وقد حفظنا مصطلح “طوفان الاقصى” عن ظهر قلب، في الإشارة إلى العملية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول الماضي، وبعدما غرقنا لمئة وخمسة عشر يوماً في متابعة اليوميات المتساقطة علينا على شكل دم وصواريخ وحجارة وأخبار مؤلمة، صار جديراً بنا العودة إلى التسمية الاستراتيجية لتلك العملية، وجوهرها، وأبعادها الثقافية والحضارية.
قد يكون “الأقصى”، بالنسبة للبعض، هو الجزء الاهم في التسمية.. ولكن بالنسبة لي، “الطوفان” هو الاساس.
و”الطوفان”، في عقلنا الجمعي، مرتبط بقصة نوح، التي مهما اختلفت التفاصيل في شأنها، إلا أن المغزى واحد، وهو إعادة تكوين هذا العالم على أسس نظيفة خالية من الفاسدين ومن عاثوا في الأرض تلويثاً وظلماً واعتداء.
هي إذاً نهاية عالم وبداية عالم جديد، وذلك بعدما جفّت المياه قبل أكثر من ثلاثة وخمسمئة ألف عام، وبعدما تجفّ الدماء التي تغرق بها أرض فلسطين والجوار الآن.
نعم، نحن على مشارف “غرق” عالم يحكمه الفاسدون، ليولد عالم، بعد “الطوفان”، أكثر عدالة والتفاتة للحق الانساني.
فبعدما كان الصهاينة يحكمون الكون بالمال والإعلام والقوة العسكرية والتقنية والرواية الخرافية، من خلال سيطرتهم على الشركات العابرة للقارات، وعلى السلطة في معظم الدول القوية، وعلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن من خلال الفيتو الاميركي، وعلى كبريات وسائل الاعلام، ومؤسسات صناعة الأسلحة، ومراكز صناعة الأدمغة وبرمجتها.
وبعدما استخدموا قوتهم تلك، لإرساء حكم الفساد والظلم والاعتداء… يأتي “الطوفان الجديد” ليقول بهديره: إن هذا العالم القائم انتهى! فلا المال عاد قادراً على انتشال “إسرائيل” من محنتها.
ولا السلطة العالمية بقيت محتكرة وأحادية، مع صعود “محور الشرق” وتطور المقاومات.
ولا القوة العسكرية والتقنية قادرة على حسم المعركة.
ولا الإعلام باستطاعته كتابة الرواية من زاوية واحدة، مع بروز قوة إعلامية مقابِلة استطاعت قلب جزء لا بأس به من الرأي العام العالمي. ولا مؤسسات صناعة الأسلحة تلبي بإنتاجها حاجة “إسرائيل”، خصوصاً أن مصانع “الباتريوت”، مثلاً، تنتج في شهر ما تصرفه “إسرائيل” في ثلاثة أيام.
ولا مراكز صناعة الأدمغة في موقع برمجة مليارات البشر.
ولا المحاكم الدولية قادرة على التهرب من الحقيقة، ولو أنها اكتفت بطلب “اتخاذ إجراءات وإرسال تقارير بها”.
ولا “الفيتوات” التي تُرفع في وجه الشعوب، قادرة على وقف هذا الجرف الآخذ بالاتساع نحو مناصرة المظلوم.. لا الظالم.
صحيح أننا لم نصل بعد إلى جفاف “الطوفان” و”التكوين” الجديد، إلا أننا على الرغم من الآلام، نسير على الطريق الصحيح إلى عالم أقل فساداً، ولو كانت التضحيات كبيرة.