عواصم الثقافة العربية: أيّة فعاليات، ولأيّة غايات، وبأيّة إمكانات؟

| فيصل طالب (*) |

تستعد مدينة طرابلس لإعلانها “عاصمة للثقافة العربية للعام 2024″، وتأتي هذه الاحتفالية في سياق الاحتفاء بعواصم الثقافة العربية التي بدأت بالقاهرة، كأوّل مدينة عربية يجري اعتمادها في هذا النطاق في العام 1996، لتبلغ طرابلس في هذا المسار المرتبة السابعة والعشرين؛ فضلاً عن مدينة القدس التي جرى اعتبارها عاصمة دائمة للثقافة العربية (منذ العام 2009)؛ مع الإشارة إلى أن طرابلس هي المدينة الثانية في لبنان التي يتم الاحتفاء بها في هذا السبيل، بعد العاصمة بيروت في العام 1999.

يهدف الاحتفاء بعواصم الثقافة العربية إلى تظهيرالحالة الثقافية في المدن المختارة بصورة ناشطة وحلّة راقية، وتحديث إطلالتها الحضارية، وتنمية مخزونها الثقافي، بما يؤكّد مكانتها المتجدّدة في تاريخ الثقافة العربية، وما قدّمته في هذا السبيل من إبداعات ومبادرات وإسهامات في ميادين التراث والأدب والعلوم والفنون، ورفدت به الثقافة الإنسانية بعامة؛ وكذلك تمكين المثقّفين من إبراز إنتاجهم، والمنتديات الثقافية من إجراء التغذية الراجعة لمسيرتها، وتطوير أحوالها بما يجعل أنشطتها أكثر التصاقاً بواقع الحال، وأشد تأثيراً في المشهد العام؛ فضلاً عمّا تتيحه هذه المناسبة من فرصة ثمينة لإطلاق المدينة المحتفى بها في الفضاء التنموي العام، بمندرجاته الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسية، المتحرّكة والمتفاعلة فيما بينها، بقوّة الدفع الثقافي الناشط والمكثّف المتسرّب إلى جميع مفاصل الحياة العامة. ناهيك بما توفّره هذه الاحتفاليات من فتح قنوات التواصل مع الجهات الثقافية الوطنية والعربية والعالمية، وتبادل المشاركة في الأنشطة الثقافية المتنوّعة…؛ وهو ما يؤدّي إلى تعميق أواصر الوحدة الوطنية في البلد الواحد، وتمتين العلاقات العربية البينية، والتعارف المتبادل بين الثقافات العربية المحلية، وتظهير المشتركات الثقافية العربية الجامعة، والانفتاح على الثقافات العالمية؛ وذلك من خلال إقامة أنشطة زائرة وأسابيع ثقافية تغني المناسبة، وتطلقها من عقال الذاتية المحض، وعبر مشروعات التوأمة بين المدينة المحتفى بها ومدن أخرى، والتي تسمح بتبادل الخبرات والتجارب، وتبصّر الحلول للمشكلات والمصاعب التي تعيق عمليات النمو والتقدّم. وبصورة إجمالية فإنّ الاحتفالية، بحكم كونها حدثاً غير اعتيادي يضع المشهد الثقافي في صدارة الاهتمام الرسمي والمجتمعي، تشكّل سانحة للجهات الحكومية كي تعطي دفعاً استثنائيّاً لمسار الحياة الثقافية في العاصمة الثقافية، بما في ذلك بطبيعة الحال توفير الدعم المالي لتنفيذ مشاريع ثقافية، وتعزيز أوضاع البنية الثقافية التحتية، وتمكين الناشطين الثقافيين من إنجاز أعمالهم وإبداعاتهم؛ فضلاً عن إعادة النظر بالقوانين والأنظمة النافذة ذات الصلة بالشؤون الثقافية، في اتجاه تحديثها وملاءمتها لمتطلبات العمل الثقافي المنتج والبنّاء. إنّ غياب هذه الرؤية بما تحمل من أبعاد تنموية وانفتاحية للاحتفالية لا يبقي منها غير صورة الاستعراض والعبور العارض، الخالية من أي مضمون يرتدّ إيجاباً على أوضاع العاصمة الثقافية بشكل عام.

تتوزّع الفعاليات الثقافية في مثل هذه المناسبات على الأنشطة الثقافية والمبادرات الخلّاقة لترسيخ أنماط ومشاريع ثقافية محورية ومستدامة؛ علماً أن لا شيء يميّز النشاطات الثقافية المنضوية تحت لواء الاحتفاء بالعاصمة الثقافية، من تلك التي درجت على إقامتها المنتديات الثقافية في الأيام العادية، سوى الارتباط الوثيق بأهداف الاحتفالية. ولعلّ أهمّ التجليّات الثقافية في هذا السبيل هي تلك التي تفضي إلى تحفيز الإنتاج الأدبي والفكري، وتشجيع تجارب البحث العلمي، ودعم  الإصدارات والمنشورات في المجالات المعرفية كافةً، ووضع قوائم بعناصر التراث الثقافي غير المادي، وتحقيق المخطوطات المتوافرة، وجمع الأمثال والحكم الشعبية، وفهرسة المؤلّفات النثرية والشعرية وإجراء الدراسات وإقامة الندوات حول بعضها، وتنظيم معارض الكتاب والفنون التشكيلية والحرف اليدوية…، وكذلك المهرجانات والعروض المسرحية والسينمائية والموسيقية، وإجراء المباريات الهادفة إلى نشر الثقافة العربية، وتعميق مفاهيمها لدى الأجيال الجديدة، ومنح الجوائز المناسبة في هذا النطاق، والاهتمام بثقافة الأطفال، وتكريم شخصيات كانت لها أيادٍ بيضاء على مسار الحياة الثقافية…إلخ

ومع ذلك، وبالعودة إلى مدينة طرابلس تحديداً، يبقى السؤال مشروعاً حول المهل الزمنية المتاحة، ومدى توافر القدرات والإمكانات المادّية والمالية والفنية واللوجستية والتنظيمية اللازمة لتنفيذ الاحتفالية، وتحقيق الأهداف الموضوعة لها بالحدود المقبولة، في ظلّ أوضاع عامّة بالغة الصعوبة، بل من أصعب ما مرّت به البلاد في تاريخها الحديث، معطوفةً على واقع ممضّ تعاني فيه المدينة إهمالاً مسترسلاً وممتداً يتطلّب الالتفات إليه والنظر في تداعياته وتجلّياته. ولعلّ إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية للعام 2024 هو فرصة حقيقية بل تاريخية لإيلاء العاصمة الثانية للبنان ما تستحق من عناية واهتمام، على طريق النماء والتطوّر، فيما لو توافرت لها القدرات اللازمة. ولذلك تشكّل هذه الاحتفالية، بمختلف مستوياتها التنظيمية والتمويلية والإجرائية، جملة من التحدّيات الكبرى التي تواجه القائمين عليها، وتستدعي تضافر الجهود الجبّارة والاستثنائية من قبل المنظمّة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ووزارة الثقافة، والسلطة المحلية، ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي، والجامعات والمنتديات الثقافية، وأهل الفكر والأدب والفن والتراث، بإسناد كبير من وزارات الإعلام والتربية والسياحة والداخلية والخارجية والاقتصاد والتجارة…، من أجل التغلّب على الصعوبات والعراقيل الناشئة من طبيعة الظروف والمعطيات القائمة، والتي كان من الممكن، سنداً إلى كونها أسباباً موضوعية مبرّرة، أن يتمّ الطلب من منظّمة الألكسو الموافقة على تأجيل الاحتفالية إلى عام آخر. غيرأنّ المعنيين توجّسوا من ألّا تعود هذه الفرصة مرّة أخرى، فآثروا الخوض فيها بما هو متاح، وتحقيق القدر الممكن من أهدافها، واتخذوا قرارهم بتنفيذ الاحتفالية في الموعد المقرّر؛ فهلّا يقدّمون إنجازاً استثنائياً تنتظره طرابلس منذ ثماني سنوات وتحتاج إليه وتستحقه.

(*) المدير العام السابق للشؤون الثقافية