| جورج علم |
“اليوم التالي” لا يزال إفتراضيّاً، سواء في غزّة أو في جنوب لبنان. لا مكان له بعد على “الروزنامة” الدبلوماسيّة، ولا تاريخ محدّداً. هناك توصيف لتصوّر عام مصاغ بـ”هرطقة سياسيّة” من نوع “السماح بعمليات مستهدفة بديلاً عن عمليات مكثّفة”، أو “التهجير الإختياري بديلاً عن التهجير القسري”… وتبقى غزّة على المشرحة، مع تنوع في عمليات البتر!
“اليوم التالي” في الجنوب مختلف نسبيّاً. هناك مطلب فجّ، يريد الإحتلال منطقة عازلة بعمق يتراوح ما بين 10 إلى 12 كيلومتراً، وبضمانات أمنية موثوقة. تهديداته، برّرت الهرولة الدبلوماسيّة نحو بيروت، ورسائله تنطوي على عناوين:
أولها: رفضه أن يبقى “اليوم” التالي” في الجنوب، في غرفة الإنتظار، إلى حين ولادة “اليوم التالي” في غزّة. التزامن مرفوض من جانبه، فيما تصرّ المقاومة على الربط، والتزامن معاً.
الثاني: يريد ضمانات أمنية موثوقة لمستوطناته، سواء تمّ ذلك عن طريق القرار 1701، أو “إتفاق الهدنة”. الأولوية عنده التنفيذ، وتوفير بيئة مطمئنة.
الثالث: الجنوب ما بعد “طوفان الأقصى”، مختلف عمّا قبله. بواباته يجب أن تكون مشرّعة أمام اقتصاديات المنطقة. وعندما يتوافر الأمن، يتوافر الإقتصاد، وتتوافر الفرص لتحفيزه.
كان بارعاً في قصفه للعواصم الغربيّة بقنابل صوتيّة، نجح في استنفار الحكومات، وتحريك الطواقم الدبلوماسية. حمل الموفدون إلى بيروت رسالة موجزة “نتنياهو يريد وقفاً لإطلاق النار. الوضع الداخلي لا يسمح بترف سياسي أو عسكري. الهاربون من الشمال يعدّون بعشرات الآلاف، وهؤلاء يريدون عودة آمنة”.
جاء “كهل” الدبلوماسيّة الأوروبيّة، جوزيب برويل، المسؤول عن السياسة الخارجيّة والأمن، ينفخ الروح في الرميم. يعرف مسبقاً بأن البلد يعاني من فراغين: وطني، نتيجة الإنقسام العمودي حيال ما يجري في الجنوب. ومؤسساتي، على مستوى هرميّة الدولة. ومع ذلك جاء يطلب من الذين التقاهم أن يتعاونوا على حياكة “كنزة الصوف” معاً لهذا الوطن العريان في عزّ كانون، ويتفاهموا حول تصور مشترك يرفع إلى الأمم المتحدة، وعواصم دول القرار، ويحدّد المواصفات اللبنانية لـ”اليوم التالي” في الجنوب، وكيفيّة تأمين الأمن والاستقرارعلى طول الحدود، سواء عن طريق وضع اتفاقية الهدنة (آذار 1949) موضع التنفيذ، أو القرار 1701 بكامل مندرجاته.
وشدّد على إمكانية تعاون مشترك ما بين لبنان والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة، لرسم مسار ومصير واضح للجنوب. الأولوية عنده للدبلوماسيّة. وأبلغ من التقاهم أنه يرفض لغة الحرب، وقناعته “أن ما يمكن أخذه بالدبلوماسيّة، لا يمكن أخذه بالقوّة”. وعد بأن الإتحاد الأوروبي، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة، يستطيع توفير ضمانات أمنيّة بالتفاهم مع الحكومة اللبنانية، وقوات “اليونيفيل”… ودعا صراحة إلى الإسراع في ملء الفراغ الرئاسي، وتفعيل المؤسسات!
كان قبله وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لإدارة عمليات حفظ السلام جان ـ بيار لاكروا، يجول على المسؤولين، ومعه المنسّقة الخاصة يوانا فرونتسكا، وقائد القوات الدولية الجنرال آرولدو لازارو. طرح ثلاثة أسئلة: الموقف من ما يجري في الجنوب؟ كيف يكمن التوصل إلى وقف لإطلاق النار؟ وما الدور المطلوب ان تلعبه قوات “اليونيفيل” حاليّاً، ومستقبلاً؟
لم يأت من فراغ، ولن يذهب إلى فراغ. هناك دور يحضّر “للقبعات الزرق”، ومهمّة تنسّق مع الولايات المتحدة، ودول كبرى، سيصار إلى اعتمادها في حال فشلت القنوات الدبلوماسية الأخرى من تحقيق الأهداف المرجوة، وأولها عدم الإنزلاق نحو حرب شاملة.
وزيرة الخارجيّة الإلمانيّة أنالينا بيربوك أكدت أن “الشريط الآمن” يجب أن يتأمن عن طريق الدبلوماسية، لا “الحرب المفتوحة”. وأن يكون بعهدة ضمانات أمنية لا تنتقص من السيادة اللبنانيّة. أوحت بأن الخيارات مفتوحة، بينها احتمال اللجوء إلى تنفيذ ال1701 تحت الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة عن طريق استخدام القوة، أو إعادة النظر بدور “اليونيفيل”، أو استحداث قوة من “التحالف الدولي” ترافق ولادة “اليوم التالي” في الجنوب!
“الجنتلمان” الأميركي آموس هوكشتاين، المبتسم دائماً، والمتفائل أبداً، جاء ليضع بصمة أميركيّة. لا يرى أن الحل وشيك. قناعته “أن الطرفين يؤكدان أنهما يفضلان المفاوضات السياسيّة على العمليات الحربيّة”. مهمته تعطيل الصواعق، دعوته كانت واضحة “على الطرفين مواصلة الحذر في عملياتهما، وعدم الإقدام على ضربة مؤذية تجر المنطقة إلى حرب قد تكون مكلفة للجميع”! نقل إلى بيروت ما سمعه في تل أبيب حول الجنوب، والتهدئة، والضمانات الأمنية المطلوبة. وأكد إستمرار مسعاه لترسيم الحدود البريّة، ضمن آلية تنفيذ القرار 1701 بكامل مندرجاته. وتنشيط المساعي لانتخاب رئيس للجمهورية، حجّته في ذلك أنه “لا يمكن ملء الفراغ في الجنوب، فيما يستمر الفراغ في القصر الجمهوري”!
ويتحدث الإعلام الأميركي عن صلة وصل بين باب المندب والجنوب. هنالك تحالف دولي، وهنا قوات دوليّة تعمل تحت علم الأمم المتحدة. هناك وكيل عن أصيل عند باب المندب، وهنا وكيل عن أصيل عند باب الجنوب، والحل ليس عند الوكلاء. إنه عند الأميركي والإيراني، ويتدرّج ليضمّ كل اللاعبين على مسرح الشرق الأوسط. وما أظهره وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن من ضعف في جولته الأخيرة، يؤكد على رغبة أميركيّة دفينة في السماح للمتطرفين “الإسرائيلييّن” بالإستمرار في عربدتهم الرامية إلى تغيير الخرائط، إنطلاقاً من غزّة.. وهذا ما يقلق اللبنانييّن المتعلّقين بأهداب الـ10452 كيلومتراً مربعاً…