| غسان سعود |
إذا كانت لكل مرحلة مشاعر مرهفة ينبغي مداراتها، فإن جديد المرحلة هو «مشاعر الخماسية» التي لا تكاد إحدى دولها الخمس (قطر، مصر، السعودية، فرنسا، الولايات المتحدة) تنهي تدخلاً وقحاً في شأن قضائيّ أو ماليّ حتى تنتقل دولة أخرى منها إلى شأن سياسيّ أو إداريّ يفترض أن لا علاقة لها به من قريب أو بعيد.فبعد المسار الطويل التي انتهجته بعض هذه الدول، وفي مقدّمها الولايات المتحدة، في تثبيت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في موقعه وحمايته عبر وكلائها اللبنانيين في القضاء والأمن والإعلام والمؤسسات الدينية، انتقلت اليوم – بعدّة العمل نفسها – لتحاول تثبيت قائد الجيش جوزف عون في موقعه، خلافاً لكل النصوص الإدارية والقانونية والدستورية.
انتقال عون من اليرزة إلى بعبدا في حال انتخابه رئيساً للجمهورية لا يهدّد استمرار مؤسسة الجيش وبقاءها وغيرهما من عدة الكذب التي تُستخدم اليوم، أما انتقاله من اليرزة إلى منزله فيمثل خطراً كبيراً على المؤسسة! يمضي الأميركيون والأوروبيون العمر وهم يزعمون أنهم يبنون علاقات مع المؤسسات لا الأشخاص، ويأتي الموفد الخاص للرئيس الفرنسي ليقول إن أمن أوروبا القوميّ يتوقف على شخص واحد في مؤسسة الجيش اللبنانيّ. خطر مغادرة جوزف عون اليرزة بات بالنسبة إلى أوروبا أكبر من خطر بقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين! كيف لم تتهافت الصحافة الأوروبية لإجراء مقابلات مع الرجل الذي يحمي الأمن القومي الأوروبيّ عبر ممرات حدودية آمنة للاجئين السوريين مع إقفال البحر في وجوههم؟ وإذا كانت الدول الخمس تتحرّك دبلوماسياً بعيداً عن الأعراف الدبلوماسية واحترام سيادة الدول وقوانينها، فإن بعض الأفرقاء اللبنانيين يستيقظون على عجل فور صدور أمر عمليات جديد ليبدأوا التحذير والتهويل من الخطر المحدق بلبنان واللبنانيين إذا رُفض طلب «الخماسية». وكأنّ هذه الدول الخمس تسمح مثلاً بوصول الغاز المصري والأردني إلى معامل إنتاج الكهرباء اللبنانية، ويمكن أن توقف تدفّقه في حال عدم تنفيذ أوامرها، أو كأنها تسمح للبنان بالاستفادة من ثروته النفطية ويمكن أن توعز إلى «توتال» بوقف التنقيب أو تأخيره، أو كأنها تغدق على المصرف المركزيّ الودائع لعدم انهيار سعر الصرف ويمكن أن تهدّد بسحبها، أو كأنها تسمح للمزارع والصناعي اللبنانييْن بتصدير إنتاجهما من دون عراقيل جمركية وقانونية إلى أسواقها ويمكن أن تمنع ذلك أو تقيّد سفر رعاياها إلى لبنان. كل هذا في وقت تؤكد الوقائع أن هذه الدول استنفدت جميع أدواتها؛ من الحرب المباشرة عام 2006، إلى المحكمة الدولية عام 2008، فالتعبئة المذهبية طوال عقدين إلى الحصار المالي والاقتصادي والثورات الملوّنة عام 2019 إلى العقوبات.
واللافت هنا أن جان إيف لودريان يتحرّك بين جميع الأفرقاء اللبنانيين معتبراً أن لديه ديناً في أعناقهم، أو كأنه سبق أن «سلّفهم» نفوذاً أو موقفاً أو غيره. وهو في مروره السريع برئيس حزب التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي يرأس ثاني أكبر كتلة نيابية، كان يعتقد أن بوسعه فعلاً أن يقول كل ما يريده ويكمل اجتماعه وجولاته، قبل أن يفاجئه باسيل فور إنهائه مداخلته الخالية من اللياقات الدبلوماسية بأنه سمعه، وأن عليه هو الآن أن يجلس ويستمع، «رغم أنكم مش معوّدين، بس إيه عنجد عم أحكي» مع إشارة من الحاجبين.
فلا شكل الدبلوماسي المعتدّ بنفسه والذي يفترض أن بوسعه توزيع الأوامر هنا وهناك مقبول، وليس مقبولاً كذلك مضمون ما يقوله عن تهديد الأمن القومي الأوروبي إذا طالب سياسي لبناني باحترام قوانين بلاده والدستور، وبضرورة احترام الأوروبيين عموماً والفرنسيين خصوصاً للدستور اللبناني إذا كانوا يريدون المضيّ في الحديث عن الإصلاحات في لبنان، فضلاً عن التهديد الفرنسي المتواصل منذ أكثر من عشر سنوات للأمن القومي اللبناني عبر تمويل بقاء النازحين السوريين في لبنان بدل تمويل عودتهم. كان يفترض بالضيف الفرنسيّ المسارعة إلى المغادرة كما يفعل سائر الموظفين الغربيين حين يصارحهم أحد النشطاء بحقيقة دعمهم للإرهاب وقتلة الأطفال، لكنّ مبعوث الرئيس الفرنسي استعاد رباطة جأشه الدبلوماسية ليودّع مستقبله بلباقة «على أمل اللقاء مستقبلاً في ظروف أفضل». علماً أن باسيل لم يشر إلى الدور الفرنسي التاريخي في حماية منظومة مالية وسياسية وأمنية لبنانية، ولم يتوقف عند التسويات التي تطرحها باريس (ويراها التيار مجحفة)، ولم يعرّج على رفض فرنسا تسليم صور الأقمار الاصطناعية لتفجير المرفأ إلى لبنان، ولم يتطرّق إلى الخلل الفاضح في الميزان التجاريّ بين البلدين أو يشكّك في أداء «توتال» في المياه الإقليمية اللبنانية، كما لم يشخصن المشكلة عبر التطرق إلى الدور الفرنسي في دعم الانتفاضة على عهد الرئيس ميشال عون ومحاولة تلفيق الملفات للمقربين من باسيل… بل إن كل ما فعله أنه اكتفى بالرد على مداخلة لودريان فقط. وهو ما يفترض أن يقود إلى القول إن المواجهة مع «الخماسية» لا تزال محدودة، وربما تقتصر على باسيل فقط. لكن ما بدأه باسيل يفترض أن يستكمل بانضمام أفرقاء آخرين، إذ يمكن لهذه الدول وغيرها أن تعد ورقة اقتصادية – إدارية – سياسية كما كان يحصل في المؤتمرات الباريسية المتتالية من أجل لبنان، فتناقش بنود الورقة مثلاً، لكن لا يمكن لمن يحاصر ويعاقب ويهدد ويتوعد أن يرسل موفدين ليُحصِّل أكثر. وفي هذه اللحظة تحديداً، بدل أن تكتفي باريس ومن خلفها بعدم انخراط لبنان أكثر في الحرب الإقليمية المحيطة به، تعتقد باريس ومن خلفها أنهم حقّقوا الهدف الأول لهم المتمثّل بأمن إسرائيل، ويمكنهم الانتقال بالتالي إلى أهداف ثانية وثالثة ورابعة. وهو ما يفرض تذكيراً جدياً لدبلوماسيّي الدول الخمس وغيرها أنها في موقع المعتدي على أمن البلد وديموغرافيته عبر الإصرار على توطين أكثر من مليوني لاجئ سوري فيه جنباً إلى جنب اللاجئين الفلسطينيين الذين تفعل هذه الدول الخمس كل ما يلزم لشطب حقهم في العودة، كما تقف في موقع المعتدي على اقتصاد البلد أيضاً عبر حماية الفاسدين قضائياً وأمنياً وإعلامياً ومنع دخول البضائع اللبنانية، ومنع مواطنيهم من السفر إلى لبنان والتضييق على العمالة اللبنانية. وهو ما يقود إلى القول إن التحذير من «غضب الخماسية» أو «حردها» يجب أن يقابل برد واضح وحازم، كما فعل باسيل مع لودريان أخيراً، بحيث يقال للخماسية ومن يطبّل ويزمّر لها إن عليها:
أولاً، وقف تهديداتها لأي مكوّن لبنانيّ.
ثانياً، تطبيق القرارات الدولية في ما يخص اللاجئين الفلسطينيين، والعمل على إعادتهم إلى وطنهم بدل التعامل معهم كأمر واقع في لبنان بعد شطب حق العودة وشطب القضية الفلسطينية.
ثالثاً، الشروع في تمويل عودة النازحين السوريين إلى سوريا بدل تمويل اندماجهم في لبنان وعدم تسجيل العدد الأكبر من ولاداتهم.
رابعاً، تنفيذ التعهدات الأميركية برفع الفيتو الأميركي عن إيصال الغاز المصري والأردني إلى معامل إنتاج الكهرباء اللبنانية، وتذكير الإسرائيليين بأن الاتفاقية الأخيرة لم تكن اتفاقية ترسيم فقط إنما ترسيم وتنقيب، ولا يمكن للإسرائيلي استخراج الغاز من كاريش ما لم يستخرج لبنان الغاز من قانا.
خامساً، رفع الحظر الخليجي سواء على إدخال البضائع اللبنانية أو على سفر مواطني الخليج إلى لبنان وغيرها من إعلانات الحرب الاقتصادية.
بعد ذلك يمكن للودريان أن يتصرّف كأخ ناصح كبير، أو كدبلوماسي عريق يحاول إيجاد حلول مشتركة أو بناء نفوذ أو إيجاد شركاء حقيقيين لحماية مصالح بلده في المنطقة؛ حتى ذلك الحين لا يفترض بلبنانيّ أن يكترث بمشاعر «الخماسية» أو يتوقّف عندها؛ الخماسية تواصل اعتداء مفتوحاً على لبنان وتفترض أنه بلغ من الضعف ما يسمح لها بانتزاع المكتسبات. وهو ما شرح باسيل لضيفه أنهم أبعد ما يكونون منه وعنه.